تَلبَية
لبيك اللهم لبيك
لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك
لا شريك لك لبيك

 

في مطلع هذا القرن كانت الزبير، مسقط رأسي، مدينة تعجّ بالحركة وتنعم بالرخاء لوقوعها على الطريق التجارية الرئيسية بين العراق ونجد. وكانت مدخل التجار النجديين، الذين يمثّلون غالبية سكانها، إلى العراق وما وراءها. وكان أبي، النجدي الأصل، يعمل في تجارة الخيول العربية. وكان أكثر زبائنه مهراجات الهند ورجال سلاح الفرسان البريطانيين. وحين بلغت العاشرة من عمري أخذني لأعيش معه في بومبي. وقد أمضيت هناك اثنتي عشرة سنة من حياتي؛ درست خلالها في إحدى المدارس الإنجليزية وتنقلت من مكان إلى آخر لتدبير الأعمال التجارية لأسرتي. لكنني مع ذلك كنت مهتماً جداً بشؤون موطني، جزيرة العرب، حيث ظهر قائد عظيم جديد اسمه عبد العزيز بن سعود. وقد سحرتني بطولات ذلك الرجل الفذّ فصممت على أن أقوم بخدمته وخدمة وطني.

وحين تركت المدرسة حاول أبي إقناعي بالبقاء في الهند ودراسة الطب. لكن فكري كان قد استقر على أمر آخر. كنت أريد أن أعود إلى الجزيرة العربية. وفي تلك الأثناء حاولت أن أجد عملاً لدى التجار في البصرة غير أني لم أُوفّق إلى ذلك حيث أُخبِرُت بأن مؤهلاتي كانت أعلى مما تحتاج إليه أعمالهم. وكان من يتكلمون الإنجليزية من سكان المنطقة حينئذٍ قليلين جداً، باستثناء اليهود وعدد من المسيحيين.

وفي خلال تلك الفترة كتبت عدداً من الرسائل التي قُبِلت للنشر في صحيفة “بصرة تايمز” الصادرة باللغة الإنجليزية. على أن بعضاً من تلك الرسائل كان قد كُتِب وأنا لا أزال في الهند. وكان رئيس تحرير تلك الصحيفة شاباً من ويلز سرعان ما أصبح صديقاً لي. وقد عرض عليّ عملاً في صحيفته أزاوله حتى أصبح أحد كتّاب مقالاتها فيما بعد.

ولسوء حظي فقدت ذلك العمل بعد فقرة قصيرة بسبب منافسات كانت جارية داخل مكتب الصحيفة المذكورة. وساءت حالتي المادية جداً. ولم يشأ والدي أن يساعدني لأنني لم أصغ إلى نصيحته فيما مضى. وذات ليلة كنت أصلّي بتضرّع وخشوع في البيت الذي كنت أقيم فيه في الزبير وإذا بأحد أقربائي يزورني. وحين علمت بأنه قد جاء عن طريق البصرة سألته عن آخر أنبائها. وكم كان فرحي عظيماً لما ذكر لي أن رجلين من ديوان ابن سعود كانا في تلك المدينة حينذاك.

ذهبت مباشرة إلى رئيس تحرير “بصرة تايمز” وسألته عمّا إذا كان يرغب في نشر مقابلة مع واحد من وزراء ابن سعود. فرحب بالفكرة، وبلغ من تحمسه لها أن اقترح عدة أسئلة يمكن أن أوجهها إلى ذلك الوزير. وفي اليوم التالي توجهت إلى البصرة وأجريت مقابلة ممتعة مع كل من الوزير عبد الله الدملوجي وحافظ وهبه. وبدافع مفاجئ سألت الدملوجي عند نهاية المقابلة عن إمكانية وجود عمل لي في ديوان ابن سعود. وقد أوضحت له أنني قد حصلت على مستوى علمي جيد في مدرسة إنجليزية في الهند، وأنني أتكلم اللغتين الإنجليزية والأردية بطلاقة، بالإضافة إلى لغتي العربية. فوعدني أنه سينظر في الموضوع. وبعد أسبوعين تسلّمت برقية تفيد بتعييني مترجماً في ديوان الملك. وكان جلالته حينئذٍ في مكة المكرمة. وقد وصلت إلى هناك في السادس والعشرين من شهر مايو سنة 1926م  (1344هـ) وأنا لا أكاد أصدّق ما حدث لي من حظ سعيد. وهكذا بدأت فترة خدمتي مع الملك.

وبقيت مترجماً في الديوان تسع سنواتٍ كاملة كنت خلالها مرافقاً لجلالته في كل أسفاره وغزواته. وكانت تلك الفترة مليئة بالأحداث الكبيرة. فقد شهدت انبثاق نجم حركة الإخوان الصاعد ثم تمرّدهم ونهايتهم، كما شهدت الحرب مع اليمن وبداية قصة الزيت العربي. وحينما انتهت خدمتي في الديوان كان لديّ الشيء الكثير مما يمكن أن أقوله عن تجاربي الخاصة. وكان أصدقائي يحثونني على تأليف كتاب عنها. وظلت فكرة التأليف تراودني، لكني لم أشرع في تنفيذها إلا مؤخراً. ولعلّ مما دفعني إلى ذلك أن عدداً من أصدقائي الإنجليز أخبروني بأنهم ملّوا قراءة الكتب والمقالات التي كتبها عن العرب وجزيرتهم أوربيون جعلوا من أنفسهم خبراء فيما يكتبون عنه بعد زيارة للجزيرة مدة لا تتجاوز بضعة أسابيع، وأنهم يعتقدون أنه قد آن الأوان ليكتب مواطن عربي كتاباً باللغة الإنجليزية يوضح فيه وجهة النظر العربية حول تاريخ بلاده الحديث. وهكذا بدأت بتأليف هذا الكتاب الذي يجعل من توحيد جزيرة العرب موضوعه الأساسي، ويروي قصة ابن سعود منذ استيلائه على الرياض سنة 1902 (1319هـ) حتى منتصف الثلاثينات من هذا القرن حينما بدأت ملحمة الزيت.

لقد دوّنت كتابات ممتازة باللغة الإنجليزية عن حياة ابن سعود وأعماله ولعلّ من أهمها ما كتبه الإنجليزي المشهور هاري سانت جون فيلبي، وإذا كان هدفي من هذا الكتاب ليس مجرد إعادة للمعلومات التي يمكن أن توجد في كتابات أخرى فإن أملي كبير في أن يملأ بعض الفجوات التي تركها المؤرخون. ولهذا فقد ركزت اهتمامي على أن أروي بنوع من التفصيل الأحداث التي اشتركت فيها شخصياً خلال سنواتي التسع في خدمة الملك. أمّا ما حدث قبل هذه السنوات فقد رويته بصورة موجزة إتماماً للفائدة. وقد فضّلت أن أعتمد في كتابة ما لم أشارك فيه من أحداث على الرواية الشفهية لأولئك الذين شاركوا فعلاً في صنعها بدلاً من الإشارة إلى ما كتبه المؤلفون عنها.

ومع الأسف الشديد فقد مضى الآن أكثر من أربعين سنة على تركي الديوان الملكي. وبمرور الزمن لم تعد ذاكرتي كما كانت من حيث القوة والكمال. وعلى أية حال فقد بذلت جهدي، وأملي أن يعذرني القارئ الكريم على ما قد يجده من أخطاء في هذا الكتاب دون قصد مني.

وختاماً لا بد لي من أن أذكر الدافع الأكبر لكتابتي هذا الكتاب وهو أني أردت أن أعبّر عن تقديري الخاص لذكرى ذاك الرجل الذين أصبحت معجباً به أكثر من إعجابي بغيره من الرجال: صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن فيصل آل سعود.

 

قائمة المحتويات