(إنَّك لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ ولكِنَّ اللهَ يَهدي مَن يَشاءُ وهُوَ أعلَمُ بالمُهتَدينْ)

سورة القصص (56)


لا يُعتَبر أي كتاب عن ابن سعود – خاصة إذا كان بالإنجليزية – كاملاً ما لم يأتِ على ذكر هاري سانت جون فيلبي؛ ذلك الإنجليزي الغريب الذي أصبح رحّالة ومستعرباً ومصمم خرائط بارزاً. ربما كان الغربي الوحيد؛ باستثناء الكابتن شكسبير، الذي أقام علاقة صداقة حقيقية مع الملك. وقد ولد في سيلان عام 1885م. وفي سنة 1908 التحق بالخدمة المدنية الهندية في إقليم البنجاب حتّي أبدى في وقت قصير قابليته في ميدان اللغات. وفي سنة 1915م أصبح ضابطاً سياسياً تحت إمرة السير بيرس كوكس في العراق. ثم وافته الفرصة عام 1917م فترأس بعثة سياسية بريطانية إلى ابن سعود. وقد ابتهج بهذه المَهمّة لأنها كانت فرصة للابتعاد عن زملائه الذين لم تكن علاقته بهم وثيقة، ولأنها ستهيّئ له إشباع طموحه في أن يكون رحّالة.

ولقد أُشيرَ من قبل إلى بعثة فيلبي التي كان هدفها إقناع ابن سعود بالمال والعتاد ليهاجم ابن رشيد فيمنعه من التدخل في الحملة البريطانية ضد الأتراك في فلسطين. وقد سافر فيلبي على بعير من الكويت مصحوباً بخَدَم أميرها حتى وصل إلى الرياض. وكان معه حوالي مائة ألف روبية. وبعد أن عقد اتفاقية مع الملك كان عليه أن يعود فوراً إلى العراق ليُخبِر رؤساءه بما تمّ وينال موافقتهم على شروط الاتفاقية. لكنّه دمّر كل شيء أنجزه بسَفَره إلى شريف مكة دون ضرورة أو تخويل من أولئك الرؤساء. وكان الشريف سعيداً بأية فرصة تعيق تطور العلاقات بين ابن سعود والبريطانيين. فمنع فيلبي بطريقة مؤدبة من أن يعود إلى الرياض ليحول دون إتمام الاتفاقية المذكورة. وبذلك استطاع أن يمنع ابن سعود من الحصول على الأسلحة التي كان يحتاجها لمهاجمة حائل. ولم يزعج ذلك الأمير فيلبي على الإطلاق لأن بعثته إلى ابن سعود مكّنته على أيّة حال من تحقيق طموحه الشخصي، وهو أن يعبر الجزيرة العربية من العقير إلى جدة في أربعة وأربعين يوماً. وقد شكّلت هذه الرحلة أساس كتابه الأول قلب جزيرة العرب. الذي نُشِر سنة 1922م. على أن الوقت الذي أمضاه فيلبي في الجزيرة العربية قد أقنَعه بأن النجم الصاعد في أفقها هو ابن سعود وليس الملك حسيناً.

وكانت زيارة فيلبي التالية للجزيرة العربية سنة 1924م. فقد تمكّن خلال المراحل الأخيرة من الصراع السعودي الهاشمي، الذي وصل إلى ذروته في حصار جدة، أن يقنع المكتب السياسي البريطاني في القاهرة ليرسله إلى هناك للتوسط بين الفريقين المتحاربَين. والواقع أنه لم يحقق للبريطانيين سوى بعض الإحراج. ذلك أن الحكومة البريطانية لم تمنحه تخويلاً للقيام بتلك السفرة، وكانت تحاول الحفاظ على حياد تامّ بين ابن سعود وعلي بن الحسين ملك الحجاز. لكن مهمّة فيلبي، وإن لم تخدم طرَفاً له وزنه، زادت من تحقيق مطامحه الشخصية. فقد أتاحت له فرصة الاجتماع بابن سعود عدّة مرات. وكان إعجابه به قد تصاعد، حينذاك، ونما شيئاً فشيئاً حتى غدا نوعاً من عبادة البطولة.

وبعد ذلك بقليل قرر فيلبي أن يترك عمله في الحكومة البريطانية ويستقرّ في جزيرة العرب. فاستقال من الخدمة المدَنية الهندية سنة 1925م. وفي السنة التالية لها أسّس له عملاً تجارياً في جدّة. وكان يشتمل على أمور منها وكالة بيع سيارات فورد. لكنّ رغبته الحقيقية كانت مواصلة رحلاته في جزيرة العرب ومصاحبة الملك. وعلى أيّة حال فقد كان عليه أن يحصل أثناء ذلك على ما يقيته، فاتّجه إلى التجارية بالطريقة التي يتّجه بها كل عربي أصيل إليها. وكانت بعض مشاريعه ناجحة، لكنّه بصفة عامة لم يكن رجل أعمال جيد فلم تزدهر أعماله في وكالة فورد. فقد كان واثقاً سنة 1926م أن يبيع إلى الحكومة السعودية مائة سيارة قيّمة كل واحدة منها ثلاثمائة جنيه إسترليني تقريباً. لكن الصفقة لم تتمّ. فوجد فيلبي أن لديه عدداً كبيراً من السيارات كان عليه أن يتخلص منها محلياً بما يستطيع من وسائل.

وكان لقائي بفيلبي أول مرّة في جدة سنة 1926م. وكان قد سمع بأنّ في الديوان مترجماً عربياً يتكلم الإنجليزية، فطلب أن يراني. ولم يكن لقاؤنا الأول على درجة كبيرة من النجاح. وكانت أكثر أسئلته الموجهة إليّ تهدف إلى التأكد من إجادتي اللغة الإنجليزية. أمّا أنا فقد كنت حديث العهد بالهند، وكانت حينذاك شديدة المعارضة للبريطانيين لدرجة أني أستطيع أن أقول عن نفسي بأنها كانت تعاني من مرض الكراهية الحادّة لهم. فأخبرت فيلبي بعد بضع دقائق بمدى معارضتي لهم ومبلغ تأييدي للحركة الوطنية الهندية ضدّهم. ولم يكن غريباً أننا لم نفترق كصديقين. على أنّ ذلك كان ذنبي بقدر ما كان ذنبه. لقد سألني في الواقع عمّا إذا كنت أريد أي شيء. فأجبته بأني أودّ أن أطّلِع على أية كتب بالإنجليزية يستطيع أن يمدّني بها. وكان جوابه على ذلك أن بعث رسالة إليّ عن طريق رئيس الديوان قائلاً بأنه يأسف لعدم استطاعته أن يزوّدني بما أردت. ومع أنّي كنت أرى فيلبي كثيراً خلال السنوات التسع التالية فإني لم أتحدث معه إلا قليلاً. بل إن محادثاتي المطوّلة معه أثناء كل تلك السنوات تكاد لا تساوي عشر مرات. وربما كان حظّي في هذا المجال أفضل من حظّ غالبية رجال الديوان. فقد كان فيلبي صمُوتاً منطوياً على نفسه يميل إلى تجنُّب الآخرين بقدر ما يستطيع.

وحينما كان الملك ورجال ديوانه في الحجاز لأداء الحجّ سنة 1927م كان واضحاً ان فيلبي قد أدرك بأن كونه مسيحياً يجعل من الصعب عليه أن ينغمس في حركة البلاد كما كان يودّ. وكان غير قادر، بطبيعة الحال، على زيارة مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، كما كان من غير اليسير عليه أن يتجوّل في أنحاء المملكة. وكان لا يرى الملك خلال مواسم الحج إلّا في جدّة. وكنت حاضراً حين ناقش هذا الموضوع مع جلالته. فقال له الملك بأنّه إن أصبح مسلماً فسيجد ترحيباً وسيصحبه في أسفاره، بما فيها الحج إلى مكة المكرمة. ومن الواضح أن ذلك اقتراح جذّاب إلى أقصى الحدود، لكن فيلبي مع ذلك أبدى نوعاً من التردد حياله وقال: رغم أني شخصياً قد أكون مستعداً أن أفعل ذلك فإني لا بد أن أستشير زوجتي في الأمر. ثم أخبر الملك فيما بعد بأنه رغم استعداده للنظر في اعتناق الإسلام لم يستطع أن يفعل ذلك لأن زوجته لم تكن مرتاحة للفكرة. فعرض الملك عليه أن يدفع إليها أربعين ألف جنيه إسترليني مقابل طلاقها لزوجها. لكن فيلبي أجاب إجابة مؤدبة مشيراً إلى أنه لا يعتقد بأن زوجته مستعدة لبيعه لقاء ذلك الثمن، مع أني لا أعلم إن كان قد حاول ذلك معها على الإطلاق، ولا شكّ في أن الملك كان حادّاً في عرضه الذي يوضّح أن جلالته قد أصبح يقدّر مشورة فيلبي ونصائحه تقديراً كبيراً.

وحين حجّ الملك سنة 1930م اتّضح أن نور الإسلام قد طلع أخيراً على فيلبي. ولم يكن حينذاك مستعداً للنظر في اعتناق الإسلام فحسب بل حريصاً على أن ينضوي تحت لواء الأخوّة الإسلامية. فأعلن إسلامه، وتسمّى عبد الله بناء على اقتراح الملك. وبعد ذلك أصبح يُعرَف باسم الشيخ عبد الله فيلبي. على أن إطلاق كلمة الشيخ عليه كان مجرّد علامة احترام بسيط، ولم تكن لقباً أو رتبة من أي نوع. وكان جلالته قد رتّب أن يحضر عالِم إسلام فيلبي في المحكمة الشرعية. وهناك أعلن رسمياً إيمانه بأركان الإسلام الخمسة أمام القاضي وشاهدين. وأعطاه ذلك القاضي شهادة بأنه قد أصبح مسلماً. ثم حدث أصعب امتحان لإيمانه، وهو الختان الذي كان عملية بالغة الإيلام لرجل بالغ. وبعد ذلك أُخِذَ إلى المسجد ليؤدّي أول صلاة لله ويشكره على هدايته. ومن هناك ذهب إلى مكة المكرمة ليُصلّي في المسجد الحرام.

وبعد دخول فيلبي في الإسلام أُخِذَ فوراً إلى الطائف، البلدة اللطيفة الواقعة في منطقة الجبال الباردة شرق مكة. واستراح هناك شهرين شُفِيَ خلالهما من آثار الختان وتعلّم أصول العقيدة الإسلامية على يدّ عالم عيّنه الملك نفسه لهذا الغرض. ولم يكُن ذلك العالِم سوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي كان أشهر عالم في المملكة وأحد أحفاد محمد ابن عبد الوهاب نفسه. وقد اعتبر فيلبي هذا شرفاً عظيماً له، وسرّ الملك لاعتقاده ذلك. وعلى أيّة حال فإن جلالته، بحصافته المعهودة، كان حريصاً على أن لا يصبح من كان مسيحياً مستشاراً له ومرافقاً إلى الأماكن المقدسة إلا إذا تأكد لدى كل إنسان بأن اعتناقه للإسلام كان واضحاً، وأن معرفته بالعقيدة الإسلامية كانت عالية. وعند نهاية فترة تعليم فيلبي كان عليه أن يؤدّي امتحاناً يقنع شيخه من خلاله أن هدايته للإسلام ومعرفته به كانتا كاملتين. ولست أدري ماذا حدث له تجاه هذا الأمر لكنّي لا أشك في أنّ ما لديه من قُدرَة على التركيز قد جعلته يجتاز الامتحان بدرجة عالية.

وكان هناك دائماً بعض الشكّ في مدى صدق فيلبي في اعتناقه للإسلام. ولست أظن بأنه كان لديه اقتناع ديني قويّ جداً. لكني أعتقد بأنّه كانت لديه رغبة عميقة في أن يكون قريبًا من الملك والشعب العربي، فقرّر أن لا يدع قضية الدين تقف في طريقه. وقد فسّر فيلبي نفسه قراره بأنه كان اختياراً منطقياً. وذات مرّة سأله صديقي محمد الدغيثر، بصراحة لماذا أصبح مسلماً. فأجابه بأنّه درس وقرأ الكتب حول كل الديانات الرئيسة في العالم – وربما كان ذلك صحيحاً – اتّضح له أن الإسلام هو العقيدة التي تحمل معنى لديه. ومن المؤكد أنه لا يستطيع أي إنسان أن يشكو من مظهر إيمان فيلبي لأن مراعاته لأصول الإسلام وعاداته كانت دقيقة، كما أن معرفته بالتراث الديني كانت عميقة إلى درجة كبيرة.

وبعد أن اعتنق فيلبي الإسلام ارتدى الملابس العربية، كما استفاد من النظام الإسلامي بالزواج من فتاة عربية أنجبت له ابنين. وأصبح يزور الملك باستمرار في كل من الرياض ومكة المكرمة. وبطبيعة الحال برّ جلالته بوعده له في أن يصطحبه في كثير من رحلاته. وصار فيلبي بجسمه الممتلئ ووجههِ المُلتَحي مشهداً مألوفاً لدى رجال الديوان، كما كان مِمّن يحضر بانتظام مجلس الملك العام والخاص. وكان أفراد الديوان يعتبرونه صديقاً ومستشاراً لجلالته مع أنه لم يكن أبداً خادماً له بأي شكل من الأشكال لأنه كان يذهب ويعود متى أراد. ومع أنه لم يكن ليُبدي أيّة مشورة ما لم يُطلَب منه إبداءها فإنه كان أحد القلائل الذين يحاجّون الملك بقوة لدعم رأيه حتى وإن خالف رأي جلالته. ولا شكّ في أن الملك قد وجد في ذلك تغييراً لطيفاً عن مواقف كثير من مستشاريه الآخرين ممّا جعله يُعجَب باستقلال رأي فيلبي. ولا بُدّ لي من أن أؤكد هنا بأني لا أعرف تماماً ماذا كان يحدث بين الملك وفيلبي، خلال محادثاتهما الخاصة. لكن لعملي في الديوان كنت بطبيعة الحال أسمع بعض التقارير عن هذه المحادثات من الحاضرين لها أحياناً. ولا شكّ في أن آراء فيلبي كانت ذات فائدة عظيمة لابن سعود. ففي سنة 1929م – مثلاً – اقترح عليه أن يُقيم اتصالات لا سلكية بين الأجزاء المختلفة من المملكة. ولم يكن هناك أي جديد في هذه الفكرة. فالواقع أني قبل أن التحق بجلالته قد نشرت مقالاً في “بصرة تايمز” اقترح فيه فكرة مشابهة لما اقترحه فيلبي. لكن هذا الأخير كانت لديه، على أية حال، القدرة ووسيلة الاتصال اللازمة ليضع الخطة موضع التنفيذ. وما أن قبِلَ جلالته الفكرة من حيث المبدأ حتى اتصل فيلبي بشركة ماركوني في تشيلمفورد في إنجلترا لتُعِدّ الأجهزة اللاسلكية الضرورية، كما اقترح إرسال بعض السعوديين إلى هناك ليتدربوا على استعمالها وصيانتها. وبعد أن قام بالترتيبات اللازمة للدّورة التدريبية تم اختبار ثلاثة شُبّان من بريد مكة المكرمة لإرسالهم للدّورة. وقد لاحظ فيلبي أنه لم يكن بين هؤلاء من يتكلم الإنجليزية فاقترح أن يبعث معهم مترجماً. واختُبِرَ أخي عبد العزيز لهذا الغرض. فذهب هو والثلاثة الآخرون إلى إنجلترا. وكان أولئك الشبان الثلاثة إبراهيم سلسلة وإبراهيم زارع وحسن حسون. وبعد دورة استمرت تسعة أو عشرة شهور عادوا إلى الوطن ومعهم الأجهزة ومهندس مصري كان مؤهلاً لإقامتها. وبعد ستّة شهور بدأت الشبكة عملها. وقد أثبتت نجاحها العظيم لدرجة أن الملك اشترى مزيداً من الأجهزة من بينها جهاز قابل للنقل يستطيع أخذه معه في رحلاته.

وكان فيلبي الرجل الغربي الوحيد الذي استطاع الملك أن يعتمد على مشورته كثيراً في الأوضاع والمواقف الخارجية. وقد أدّت مقدرته على الوصول إلى هذا الموقع الفريد إلى كثير من التساؤلات في الديوان حول الطبيعة الحقيقية لدوافعه. فخشيَ كثير من الناس، وأنا من بينهم، بأنه كان عميلاً للحكومة البريطانية، وأن غرضه كان إقناع الملك بتبنّي سياسة مؤيدة لها. وعمل كهذا كان بالتأكيد مما قامت به أسرته. ذلك أن أحد أبنائه من زوجته الإنجليزية هو كيم فيلبي العميل المزدوج المشهور الذي يعيش الآن في موسكو. وقد حصلت أخيراً على نسخة من كتابه “حربي الصامتة” وقرأته باهتمام لأعرف ما إذا كان هناك شبه بين شخصيتيّ الابن وأبيه. فوجدت أن كيم نسخة صادقة لأبيه جون. وإني لعَلَى ثقة من أن فيلبي كان جديراً بأن يصبح عميلاً مزدوجاً مثالية لو كانت لديه الفرصة أو الميل إلى ذلك. لكن القضية لم تبرز في حقيقة الأمر على الإطلاق؛ أولاً لأن ابن سعود كان من العظمة في معرفة الرجال بحيث يتعذّر أن يخدعه عميل سياسي. وثانياً لأني متأكد، من خلال تأملي في أحداث الماضي، من أن فيلبي كان مدفوعاً تماماً باحترامه وتقديره للملك. وكان جلالته يوحي لكل من كانوا حوله بالولاء والتّفاني من أجله. وقد وقع فيلبي – كما وقعنا جميعاً – تحت تأثير سحره. وعلى أيّة حال فمع أنه لا يوجد من يشك في إخلاص فيلبي وولائه للملك فمن الواضح أنه كان يعمل، أيضاً، من أجل المصالح العليا لبلاده الأصلية.

وهنالك أمر آخر يمكن أن يلقي ضوءًا جانبياً مثيراً على دوافع فيلبي، وهو تورّطه بقضية فلسطين. وما زلت أذكر أنه سأل الملك مرة في مكة المكرمة عن رأيه في المشكلة اليهودية، فأجابه الملك بقوله: رغم أن اليهود أعداء للمسلمين منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم – وسيظلّون أعداء لهم – فإني واثق بأن بريطانيا العظمى ستكون عادلة بين الطرفين. ولن تفعل أي شيء يمكن أن يضرّ بمصالح العرب. وعند بداية الحرب العالمية الثانية أصبح فيلبي، الذي كان حينذاك في إنجلترا، متورّطاً بشكل أكثر مباشرة من ذي قبل بالقضية الفلسطينية. وكان قد توصّل إلى نتيجة مؤدّاها أن هناك حلاً بسيطاً للمشكلة وهو أن تُعطى فلسطين لليهود ويُعاد توطين عرَبها في مكان آخر، على أن يدفع اليهود مبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني من نفقات إعادة التوطين. وفي مقابل ذلك تعطي الدول الغربية لابن سعود حريّة التصرف بالأقاليم الجنوبية من شبه الجزيرة العربية.

وفي شهر أكتوبر سنة 1939م قابل فيلبي حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ورئيس الوكالة اليهودية، وذكر له المشروع المقترَح. وكان وايزمان على وشك الذهاب إلى أمريكا حيث كان يأمل أن يطرح هذا المشروع على الرئيس روزفلت. وفي خلال ذلك كان على فيلبي أن يحصل على موافقة ابن سعود. على أن مهمّة وايزمان لم تحقّق نتائج ملموسة. وقد قام بمحاولة أخرى سنة 1942م. فقُبيل توجّهه إلى الولايات المتحدة في شهر مارس من تلك السنة قابل تشرشل الذي أوضح له أن نجاح المشروع يعتمد على قبول ابن سعود له بوصفه أبرز زعيم عربي، وأن بريطانيا والولايات المتحدة كانتا على استعداد لمساعدته لينال أفضل ما يمكن من مكاسب. ومرّة أخرى لم تؤدِّ مهمّة وايزمان إلى أيّة نتيجة. وفي أثناء ذلك لم يحصل فيلبي على نجاح أفضل في جزيرة العرب. ذلك أنه استطاع أن يحصل على مقابلة خاصة مع الملك سنة 1940م، لكن رغم حرصه الشديد على إثارة اهتمام جلالته بالمشروع ونيل موافقته على تنفيذه فإن جلالته لم يكن مستعداً لمناقشة أي مشروع متناقض تماماً مع مصالح العرب. وقد نصح فيلبي بأن لا يتطرّق إلى الموضوع مرة أخرى. وهكذا فشلت مهمته فشلاً ذريعاً.

وللمرء أن يتساءل كثيراً من الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تأييد فيلبي للمشروع المذكور سابقاً. وقد نصح العرب فيما بعد بقبول تقسيم فلسطين، وإن كان هذا من شبه المؤكد ناتجاً عن خوفه من مصير أسوأ منه في حالة رفضهم له. وعلى أيّة حال فإن ولاء فيلبي للملك واهتمامه بمصالحه من الأمور الواضحة في مناسبات عديدة خلال خدمتي في الديوان. ومن ذلك – مثلاً – ما حدث حين كان يشرف على شحنة من الأسلحة إلى الرياض لجيش جلالته؛ فقُبَيل مغادرة القافلة بلَغَهُ أنّ قبيلة صغيرة في طريقها قد ثارت ضدّه. وهنا أوقف شحنها فوراً حتى تأكد شخصياً من أن القبيلة طُرِدَت من الطريق التي كانت القافلة ستمرّ بها، ومن مناقبه، أيضاً، أنّه لم يسعَ أبداً إلى الحصول على مكاسب مادّية من خلال صداقته للملك. وقد قال جلالته ذات يوم إن هناك رجلين لم يطلبا منه أي شيء على الإطلاق، وهما عبد الرحمن السبيعي، وكيله في شقراء، وفيلبي.

وفي اعتقادي أن هناك خطراً في المبالغة في تصوير تأثير فيلبي على الملك. ذلك أن جلالته كان دائماً مستعداً للاستماع إلى نصيحة أي إنسان قادر على إسدائها إليه. وكان فيلبي غالباً المصدر الوحيد للمعلومات والمشورة بالنسبة لشؤون العالم الغربي. لذلك لم يكن غريباً أن يجد الملك آراءه مفيدة جداً. لكنّه من المهمّ أن يعلم أولاً أن فيلبي لم تكن له أبداً أيّة سُلطة حقيقية، وإنّما كان مجرّد مستشار وصديق، ولم يكن أبداً صانع قرار لأنّ الملك كان يتّخذ كل القرارات بنفسه. وحين كانت السيدة فريا ستارك في العراق عرض فيلبي على الملك أن يدعوها إلى المملكة، فأجابه: “إذا أتت فأهلاً بها، لكنّي لن أدعوها”. ولم تأتِ السيدة فريا بطبيعة الحال. ومن المهمّ أن يعلم ثانياً بأن تأثير فيلبي كان محصوراً في الشؤون الخارجية، بل إنّه من النادر أن ناقش معه هذه المشاكل.

ومن الأسباب التي تجعلني أشك في أن فيلبي قد رغب يوماً من الأيام أن يكون عميلاً بريطانياً أنّه نادراً ما أعطى انطباعاً بتأييده لبلاده. بل كان كثير الانتقاد لها، خاصة حينما كان يحكمها حزب المحافظين. وكان انتقاده للسياسة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية من الشدّة لدرجة أغضبت الملك نفسه، فأمر بالابتعاد عنه فترة من الزمن. وكان فيلبي في ذلك الوقت يفكّر في دخول السياسة البريطانية. وفي سنة 1939م رشّح نفسه عن حزب العمال في إبنج، لكنه فشل. وحوالي سنة 1945م تحوّل إلى حزب الكومونويلث الذي لم يُعمَّر طويلاً، لكنه بعد ذلك بقليل فقد اهتمامه بسياسة بلاده الداخلية. وقد سألته مرّة عمّا إذا كان ينتمي إلى أي حزب سياسي بريطاني فذكر لي، على ما يبدو لي، اسم موزلي.

وكنت قد قابلت فيلبي بعد الانتخابات البريطانية سنة 1930م في الديوان بمكة المكرّمة وسألته عن رأيه في الوزارة البريطانية الجديدة فأجاب: إنه لا نفع فيها. قلت له: لماذا تحتقر حكومتك؟ فقال: لأنها غير صالحة لحكم بريطانيا. ثم استطرد ليخبرني بأن هناك مدرستين سياسيتين في بلاده تجاه الأقطار العربية؛ إحداهما مدرسة اللنبي ولورانس، والثانية – وهي التي يناصرها فيلبي نفسه – مدرسة هوجارت رئيس المكتب العربي في القاهرة، وقد أوضح لي بأن المدرسة الأولى تؤيد الهاشميين لاعتقادها بأنهم أكثر تقدّماً وتحرّراً، وأن المدرسة الثانية تؤيد السعوديين لشعورها بأن التاريخ قد برهن على أنّهم أصلح لحكم العرب.

وتكاد تكون تلك المحادثة أطول محادثة لي مع فيلبي على الإطلاق. ولا بد أن حالته النفسية كانت ممتازة ذلك اليوم لأنه لم يكن سهل التعارف بوجه عام، بل كان دائماً منعزلاً متحفظاً. والواقع أن تكتّمه في وسط مجتمعنا العربي المضياف بلغ حدود السخف. وكان أكثر الناس يبتعدون عنه ولا يحتملونه إلا بسبب احترامهم للملك. وكانت له طريقة فعّالة في إيقاف المحادثة قبل بدئها تقريباً – فذات مرة – مثلاً – حين كنا متّجهين على الإبِل من عرفات إلى مزدلفة وجدت نفسي فجأة بجواره سألته مجاملة عن حاله، فأجاب: “أوه. أنا دائماً في خير”، ثم ابتعد عني. وفي مناسبة ثانية بعث إليّ أخي كتاباً عن الفلك يسمّى الكون الغامض فأريته إياه وسألته عن رأيه فيه. فنظر إليه نظرةً واحدة، ثم أعاده إليّ قائلاً: “لا تهتم به فإنك بالتأكيد لن تفهمه”.

وكان فيلبي بطبيعته رجلاً يصعب الاتصال به. ولا أظن أنّه لو حاول التحدّث مع البدو بسهولة سيكون قادراً على محادثتهم بمثل الطريقة السهلة التي كان يستعملها جلوب باشا دون تكلّف. وأعتقد أن هناك سببين آخرين لعزوفه عن التحدث مع موظفي الديوان؛ أحدهما أنّه كان يعاني من عجز بسيط في النطق وكان يستطيع إخفاءه نسبياً بتقليل كلامه، والثاني أن مقدرته على التخاطب بالعربية كانت متوسطة. ولأنه يطيب له أن يظنّ بأنه عربي أفضل من العرب فقد كان من المُحرِج له أن يدخل في أحاديث يتّضح من خلالها أن معرفته بالعربية أقلّ من الكمال. وعلى أيّة حال فقد كان يستهجن بشدّة لو بدوت له جاهلاً بالمصطلحات الإنجليزية. ففي أحد الأيام دخل متبختراً إلى الديوان في مكة المكرمة واتّجه مباشرة إلى مكتبي فقال: ما الأخبار؟ فقلت: أيّة أخبار تريد؟ ثم شرحت له بأن لديّ، فوق مكتبي، أخبار من كل أنحاء العالم. فقال: “أوه. لقد قلت فقط ما الأخبار؟”.

وهذا تعبير انجليزي شائع. وكنت مرتبكاً نوعاً ما، سألته مرة أخرى عن أيّ بلد تهمّه أخباره. قال: “أوه. أنت لا تعرف الإنجليزية”. ثم مضى بازدراء. وبعد تلك الحادثة أصبح يميل إلى اجتنابي. وذلك أمر لم أكن أبداً شديد الأسف عليه.

وكان فيلبي يكتب دائماً مقالات وقصصاً عن الجزيرة العربية لتُنشَر في الغرب. وكانت مجلة الشرق الأدنى والهند إحدى المجلّات التي يكتب فيها. ولم يطلب من فيلبي أبداً – حسب علمي – تقديم مقالاته إلى الديوان قبل إرسالها للنشر. ومع ذلك فقد اختار أن يفعل ذلك. وكان عدد منها يأتي إلى مكتبي بين حين وآخر. وربما كان يُرادُ منّي مراقبتها، وإن كنت لم أتلقّ تعليمات صريحة بهذا الشأن. على أنّه لم يكن في تلك المقالات ما يجعلني أرغب إزالته. ولم يكن فيها أي شيء طريف أو ذي مغزى بالنسبة لنا. بل كانت مجرّد وصف جاف لحادثة معينة أو لذهاب الملك ومجيئه مع حاشيته من مكان إلى آخر. ولم يكن لديه ما يتحدّث عنه من الأمور الجوهرية إلا نادراً. وكانت جميع مقالاته مكتوبة بأسلوبه الجاف المتميز ومشتملة على تعليقات حقيقية ومُرضية عن الملك وبلاده. وربما كان يأمل، بتقديم كتاباته إلى الديوان، نيل إعجاب جلالته بولائه له. فإن كان الأمر كذلك فقد كان مجهوده ضائعاً لأن جلالته لم يطلب مني أبداً أن أترجم له أية مقالة من تلك المقالات.

وكانت أعزّ آمال فيلبي أن يُعرَف بأنّهُ رحّالة عظيم. فكان يختفي طويلاً في رحلات مختلفة يذهب في بعضها إلى أبعد ما يُفكِّر فيه من أماكن. وفي سنة 1929م تقريباً كنت مع الملك في طريق عودته من المدينة الشرقية إلى الرياض بعد قتال ناجح ضدّ بعض القبائل المتمرّدة. وفجأة سمعنا صوتاً غير متوقع لمُحرّك وإذا بفيلبي يظهر على سيّارة فورد تحت سحابة من الغبار. وكان مُكلّفاً من شركة فورد ليقود السيارة من البحر الأحمر غرباً إلى الخليج العربي شرقاً كجُملة دعائية تبيّن طاقة تلك السيارة ومدى الاعتماد عليها فوق الطرق الشاقّة غير المطروقة. وكان قد سمع بأن الملك موجود في المنطقة فأراد مقابلته. وقد انتهز الفرصة للانضمام إلى ركبنا، وصحب جلالته إلى الهفوف، حيث استقام عدة أيام.

وكان فيلبي شديد الحرص على أن يصبح أول رحّالة غربي يعبر الربع الخالي من الهفوف شمالاً إلى البحر العربي جنوباً. وبعد أن درس المشروع بنوع من التفصيل رفع الأمر إلى الملك. وكان من الضروري له أن ينال تأييد جلالته ليزوّده بالإبِل من أجل رحلته، وليزوّده أيضاً، ببعض رجاله الخاصّين ليقوموا بحراسته. وحين عَلِمَ البدو في الربع الخالي بأنّ رجال الملك سيرافقونه أصبح آمناً نسبياً من هجماتهم. ولو ذهب بدون أولئك الحُرّاس فإن فرصته في البقاء على قيد الحياة ستكون ضعيفة جداً. وقد أخبر جلالته فيلبي بأنه لا يمانع في رحلته بشرط أن يوافق عليها أمير المنطقة الشرقية، عبد الله بن جلوي. ولسوء حظ فيلبي أن ذلك الأمير رفض السماح له لوجود قبيلة ثائرة في المنطقة قد تعتدي عليه وعلى رفاقه. وأوصى بأن تؤجَّل الرحلة حتى يقضي على ثورة القبيلة المذكورة.

ولم يكن أمام فيلبي إلا أن يقبل بالأمر الواقع. ثم صحب الملك في رحلته السنوية لأداء الحج. وعند وصولنا إلى مكة المكرمة استقبلتنا الأخبار المفيدة بأن برنرام توماس قد عبرَ الربع الخالي من صلالة، المدينة العمانية الواقعة على شاطئ البحر العربي، إلى قَطَر، وأنّه سافر من هناك إلى البحرين. ولم يكن توماس قد حصل على موافقة الملك وتأييده لمغامرته لأنّه لم تكن له صلة به. لكنّه كان قد نال مساعدة من سلطان عمان، الذي كان يستشيره في النواحي الاقتصادية. وربما كان ذلك أحد العوامل التي أدّت إلى نجاح رحلته. وقد اتّخذ توماس، أيضاً، الحِيطة باصطحابه فرداً من كلّ قبيلة كان من المرجّح أن يقابلها في طريقه. وبهذا استفاد من العُرف البَدوي، وهو أن القبيلة لا تهاجم أية قافلة إذا كان معها رفيق منها.

وكنت مع فيلبي حينما سمع لأول مرة نجاح توماس. وكان من الواضح أن ذلك الخبر قد خيّب أمله. لكنه لم يكن الرجل المستسلم لإظهار مشاعره. فتحمّل الصدمة برجولة، وكتب فوراً برقية إلى توماس، الذي كان قد عاد حينذاك إلى إنجلترا حيث رحّب به ترحيب الأبطال. وقد طلب مني فيلبي أن أبعث البرقيّة إليه. وكان يهنّئه فيها عن إنجازه العظيم وفوزه بالسباق ضدّ الزمن مع فيلبي نفسه. وقد ضمن ثناءه على توماس جملة مقتبسة من مثل عربي تقول: “ما ظلم من أعطى القوس باريها”. وكان يقصد بذلك أن توماس جدير بالفرصة التي أُتِيحَت له ليحاول عبور المنطقة.

ثم بدأ فيلبّي فوراً استعداداته الخاصة لعبور الربع الخالي في السنة التالية. ولأنّ توماس قد عبَرَهُ من الجنوب إلى الشمال فإنّه سيعبُرُه في اتّجاه معاكس. وقد وافق الملك على ذلك. وفي فصل الشتاء التالي، خلال شهر رمضان، كان مستعدّاً للسفر. وقد بدأ رحلته من عند الهفوف شمالاً مع خمسة وعشرين رجلاً من أتباعه وبعض الخدم النجديين الذين اختيروا له في الرياض. وفي إحدى محادثاتي الطويلة معه أخبرني عن الرحلة، وقال إنها استغرقت حوالي شهر رمضان كلّه. ولم يكن مُلزماً بالصيام لأنّه كان على سفر. ومع هذا فقد اختار أن يصوم. وقد أكّدَ لي ذلك خدَمَه الشخصيّون. ولم يكن هذا باليسير على أجنبي في الصحراء. ولمعرفتي بفيلبي فإنّي لا أشك في أنّ متاعب الصيام هانت لديه بسبب متعته بمقدرته على أن يُظهِر لأتباعه بأنّه يتّصف بصفات العربي أكثر منكم. وقد أخبَرَني أنّه لم يشرب ماء طيلة رحلته كلّها، وإنما اكتفى بشرب حليب النُوق والشاي غير المُحلّى والقهوة العربية. ولم يكن هذا، أيضاً، أمراً لازماً لأنّ هناك آباراً صغيرة في الصحراء يستقي منها البدو. وكان رجال القبائل يخفون هذه الآبار بتغطيتها بالأحجار ووضع رمل فوقها للتّمويه. وكانت هذه الآبار معروفة لرجال فيلبي. فلم تواجه الحملة مشكلة من حيث الماء. وكان لدى فيلبي، على الأقل، فرصة وجود غذاء أكثر تنوّعاً مما هو ميّسر عادةً في الصحراء؛ إذ كان قد أخذ معه كمّية وافرة من البسكوت والطعام المعلّب.

وقد توغّل فيلبي في الجنوب حتى وصل إلى آثار المدينة القديمة وبرة، وهي التي مرّ بها توماس، أيضاً، حين سافر من الجنوب إلى الشمال. وقد لاحظ فيلبي حولها وجود بركانَين مندثرَين، كما فحص كتلة من الحديد مُلقاةً على الرمال. وكان المشهور لدى البادية بأنها في حجم البعير. والواقع أنّها لم تكن أكثر من أربع وعشرين بوصة طولاً واثنتي عشرة بوصة عرضاً. وربما كانت شهاباً صغيراً. وقد دحض كل من توماس وفيلبي ما كان يُشَاع عن حجمها، لكنّهما أكّدا أسطورة الرمال المغنيّة. ولم يواصل فيلبي رحلته من وبره جنوباً إلى صلالة على شواطئ البحر العربي، وإنما اتّجه جنوباً بغرب إلى ضاحية الصافي، ثم اتّجه شمالاً حتى وصل إلى نقطة مجاورة لنجران. ومن هناك عاد متّجهاً جنوباً بشرق إلى النقطة التي انطلق منها قُرب وبرة. وبذلك فإنّه قد سار في إطارٍ يكاد يكون مثلّثاً متساوي الأضلاع وسط الربع الخالي. ولعلّ في اتّباع هذا المسار غير المنتظم إشارة إلى سلوك ذلك الرجل المتصلّب وغير العادي. وكان فيلبي يبحث في مساره غير المنتظم في الربع الخالي عن آثار المدن القديمة التي كان من المشهور وجودها في تلك المنطقة. وقد أفاد أنّه لم يجد أثراً لحيوان أو نبات من أي نوع هناك. وقد أنهى فيلبي رحلته أخيراً في نجران. ثم سافر إلى الحجاز حيث كان يتوقع أن يرى الملك في الطائف. لكنّ جلالته لم يكن قد وصل إليها. ولهذا سافر فيلبي فوراً صوب نجد حيث قابل الملك في منتصف طريقه إلى مكة.

وفي أثناء تجوال فيلبي في الربع الخالي جمع بعناية نماذج لنباتات وحيوانات ووضعها في قوارير، كما جمع عينات جيولوجية مختلفة. وكانت هذه هي الطريقة التي يمارس فيها عمله بصورة عادية خلال رحلته. وكان يشعر بالفخر لتمكُّنِه من إهداء مجموعات كبيرة من تلك النماذج إلى المتاحف الإنجليزية وإلى الجمعية الجغرافية المَلَكية في لندن وربّما كانت أكثر مساهمات فيلبي بقاءً بالنسبة لتطور الجزيرة العربية ما عمله من خرائط لها. فقد كان ينتهز الفرصة في كل رحلاته ليرسم خرائط تفصيلية للمناطق التي مرّ بها. وقد أثبتت هذه الخرائط أنّه يمكن الاعتماد عليها بدرجة كبيرة، كما أصبحت أساساً لكثير من الخرائط المستعملة في الوقت الحاضر. وقد وجد فيها الباحثون عن الزيت فائدة لا تقدّر بثمن. وعندما كنت أعمل في أرامكو – بعد تركي العمل في الديوان – كان فيلبي كثير الزيارة لتلك الشركة. وكان من عادته إلقاء محاضرات على موظفيها حول جغرافية المملكة العربية السعودية وثقافتها.

ومع أن فيلبي كان، بدون شك، عظيماً في رسم الخرائط فإنّ جانباً من نشاطه في رسمها يكشف عن إحساسه المحدود في الدعابة. لقد كان شديد الحرص على أن يظهر في خرائطه الاسم العربي الصحيح لكلّ المعالم الجغرافية. ولم يحتَج إلى وقت طويل ليجد أن البدو المحليّين قد أعطوا أسماء لكل صغيرة وكبيرة في مناطقهم تقريباً. ونتيجة لذلك فإنه أينما سار لرسم خرائطه كان يسأل دائماً أدلاَّءه البدو عن اسم كل شيء يراه. ولم يكن مستغرَباً أن يكون هؤلاء عند نهاية كل يوم من أيام سفرهم، متبرّمين بسَيل الأسئلة التي كان يطرحها عليهم باستمرار. ولذلك فإنهم غالباً ما حاولوا بعث الحيوية في تلك المحادثات باختراع أسماء من عندهم. ويبدو أن فيلبي لم يكن يدرك ضحكهم عليه. والواقع أنّه قال في أحد كتبه: “إن تقلُّب التسميات العربية في أفواه الأدلاَّء المختلفين مهلك لمكتشِف بلادهم”. ورغم أن الأسماء المختَرَعة كثيراً ما كانت فاحشة وداعرة فإنه كان يدوّنها بإخلاص ويطبعها على خرائطه. ومن السهل تصوّر مدى الحرج الذي يحدث أحياناً لمستعملي هذه الخرائط. وما زلت أذكر أن الملك أعطي ذات مرة نسخة من خريطة لفيلبي عن الدهناء، التي كان جلالته يعرفها معرفة شخصية. وكانت الخريطة تظهر أسماء عربية لكل المعالم المحلية. لكن بما أنها كانت مكتوبة بحروف إنجليزية فقد طلب مني الملك أن أقرأها عليه. وقد وجدت أن اسم أحد التلال “عرق الموخريّة”. وكان ذلك واحداً من الأمثلة البسيطة لدعابة البدو الظاهرة على الخريطة. وقد تردّدت في قراءة هذا الاسم، لكن الملك أمرَني أن أقرأه بصوت عالٍ فاضطررت إلى فعل ذلك. فغضب مني غضباً شديداً. فأوضحت له بأني لم أقرأ إلا ما كان مكتوباً. فأدرك فوراً ما حدث وانفجر في الضحك.

ولعلّه من الواضح أنني لم أحاول خلال هذا الفصل أن أُخفي عدم ميلي الشخصي لفيلبي. ولم أكن وحدي في ذلك الأمر. فقد سبق أن أشرت إلى أن طريقته المتحفِّظة جعلَت أصدقاءه بين العَرَب قليلين. لكني أشترك مع كل من التقى به في التقدير العظيم لشجاعته وكفاءته الواضحتين. أما بصفته مؤرخاً وجغرافياً فقد كان يحظى بمزيّة فريدة، وهي رعاية الملك له. وكان، حينذاك، المستعرب الوحيد الذي يمكنه أن يدّعي صادقاً بأنه عمل كل ملاحظاته بنفسه. وكان مشهوراً في بلده أثناء حياته. ولعلّ مما يؤيد ذلك أنه عندما توفي سنة 1960م أُبِّنَ في عمودين من صحيفة التايمز. وقد توفي ودفن في لبنان. وكانت رغبته الأخيرة أن يدفن في الرياض حسب الطريقة الإسلامية الصحيحة في قبر ليست عليه أية علامات.

قائمة المحتويات