إذا لم يَكُنْ إلّا الأسِنّةُ مَركَبٌ              فما حِيلُة المُضطَر إلّا رُكُوبُها

“الكُمَيت الأسَديّ”


كان أول إجراء اتخذه ابن سعود لدى سماعه بتجمع قبيلتي عتيبة ومطير أن بعث رسائل إلى أمراء المدن وطلب منهم القدوم إلى الرياض برايات الجهاد. وكان يتبع تلك الرايات كل المحاربين الموالين للملك. وقد جمع جلالته قواته بأقصى سرعة وإن كانت الأمور غير ميسرة بالنسبة له لأن تلك الحادثة كانت في شهر رمضان. وقد طلب من أتباعه أن يفطروا ليكونوا أكثر قوة في القتال. فتردّد بعضهم في بداية الأمر، لكنهم أخيراً اتّبعوا الأكثرية فأفطروا.

وكان مِمّن وقف إلى جانب الملك في وقت الحاجة أحد أنصاره القدامى، وهو عبد الله بن جلوي، الذي جهزّ جيشاً من رجال القبائل المحلّية في الأحساء، وأرسله بقيادة ابنه فهد إلى المنطقة الشمالية لعرقلة قبيلتي شمّر والعجمان اللتين كانتا تتجمعان لمحاربة الملك. وكان جلالته قد وكّل إلى عبد العزيز ابن مساعد، أمير حائل، مهمة عرقلة حركات ابن مشهور الذي كان قد التفّ حوله أتباعه من عنزة وأفراد قليلون من شمّر. وبذلك استطاع أن يمضي في حملته شمال الرياض وهو واثق بأن جناحيه الشرقي والشمالي آمنان.

وحالما جهزّ الملك قوّة كافية انطلق من الرياض إلى بريدة عاصمة القصيم عبر بلدة شقراء قاعدة الوشم. وكان يصحبه غالبية رجال ديوانه حيثما ذهب حتى في أيام الحرب. ومن هنا كنت سأمضي معه بدون شك. وكان أكثر جيشه قد امتطوا الإبل، لكن قسماً منهم على رأسهم الملك استقلوا السيارات. وكان الملك قد أصبح يعتبر السيارات عظيمة النفع في الحروب بشرط أن لا تعطب أو تنغرز في الرمال. ذلك أنها أسرع من الإبل وأسهل تناولاً عند إرادة القيام بهجوم مفاجئ أو انسحاب عاجل. ومع ذلك فقد تُرِكَت السيارات في بريدة لأن أرض الصحراء بعدها كانت صعبة جداً بحيث كان من غير الصواب المجازفة بالسفر عليها.

وأذكر أن جلالته عقد عدة اجتماعات في بريدة حضرها عدد كبير من البدو الموالين له. فتحدث إليهم ومازحهم بدون كُلفة باعثاً فيهم الشجاعة ومسدياً إليهم النصيحة كلما رآهم في حاجة إليهما. وكان كل رجل من رجال القبائل تحدث إليه يعطيه رأياً حول قوّة ومكان العدوّ أو ولاء قبيلة معيّنة أو فخذ من افخاذها. وبهذه الطريقة استطاع الملك جمع معلومات كثيرة رغم أن قسماً منها كان متناقضاً. وكان من المُمتع أن يراقب المرء تلك الطريقة الفريدة التي كان جلالته يرفع بها المعنويات ويجمع المعلومات في وقت واحد، وتلك المهارة الفذّة التي كان يمحص بها التقارير ويَزنها للحصول على صورة دقيقة للوضع العسكري الشامل.

كان هناك يوم مطير قبيل مغادرتنا بريدة فتفتّحت الصحراء بالألوان، حيث نمت الأزهار والأعشاب بواسطة الغيث. وفي طريقنا إلى المعركة بدَت الطبيعة وكأنها ترجو لنا النجاح. وبينما كنا نسير كان جلالته يتحدث إلى أكبر عدد ممكن من الزعماء ورجال القبائل. وكان الهدف من ذلك إبقاء الروح المعنوية حيّة وإشباع رغبته المتفتحة دائماً لسماع الأخبار. وقد اتجهنا من بريدة على النبقية حيث تقرر أن ننتظر هناك حتى وصول ابني الملك، سعود ومحمد، من الرياض. وكان الأمير فيصل قد بعث قبل ذلك للمحافظة على الحجاز. وقد اتضح لي بعد ذلك أن الإخوان كانوا على علم بتحركاتنا خلال ذلك الوقت، وأن مطلق بن الجعباء، أحد رؤساء مطير، قد اقترح الهجوم على الرياض قبل أن يغادرها الأمير سعود. وكان يقول إنه لا يوجد من يحميهم هناك إلا قليل من الخدم، فدعونا نذهب لنقضي عليهم. وهذا سيجعل الملك مقطوعاً في الصحراء. وكان يمكن لمثل هذه الخطة أن تنجح. لكنها لحسن الحظ لم تنفذ فوصل الأمير سعود وأخوه سالمين ومعهما خدمهما وعدد كبير من الحاضرة والبادية الذين التحقوا بهما في الطريق.

وقد بقينا حوالي أسبوع في منطقة النبقية. وكانت منطقة طريفة ذات تربة خصبة حمراء شبيهة بالطين تنمو فيها نباتات صحراوية كثيرة. ولكن أكثر الناس في المعسكر لم تكن تحدوهم الرغبة في التمتع بنباتات الصحراء المدهشة. ذلك أن الجو كان يزداد توتراً، وكنا جميعاً ندرك مقدار أهمية المعركة القادمة بالنسبة لمستقبل المملكة. وذات ليلة جرت حادثة صغيرة بعد صلاة المغرب؛ إذ سُمِعَ إطلاق نار من بُعد، فصار كل رجل في حالة تأهب. وهرَعَ الملك نفسه من خيمته يصيح صيحة الحرب ويسأل عما حدث. وقد ثبّطه عدد من زعماء البادية من الذهاب إلى ناحية مصدر النار، فأرسل بعض الخدم لتقصي الموضوع. وقد اتّضح أن إطلاق النار لم يكن سوى إشارة لنفر من قبيلة شمّر كانوا قد ذهبوا ليبحثوا عن مورد ماء فضلوا طريقهم. وكان رفاقهم يطلقون النار ليهدوهم إلى مكانهم. وقد أوضحت تلك الحادثة السهولة التي يمكن بها حدوث نكبات كتلك التي حدثت في روضة مهنّا وتربة. فرغم أنه لم يكن هناك سوى بضع طلقات من بعيد فقد أصبح كل امرئ في المعسكر يحدق في الظلام مشدود الأعصاب مستعداً لإطلاق النار على أي شيء يتحرك. وكان من الممكن جداً أن يبدأ بعضنا بإطلاق النار على البعض الآخر.

وانطلقنا في صباح اليوم التالي متّجهين إلى بلدة الزلفي عبر سلسلة من كثبان الرمل الكبيرة. وكان أكثر سكان هذه البلدة من قبيلة عتيبة. وحين اقتربنا منها وافتنا الأخبار بأن الإخوان قد أرسلوا إليها حوالي ثلاثين رجلاً من قبيلة عتيبة محاولين إثارة أهلها ضد الملك والسماح لهم بالاستيلاء على حصونها. وكان هذا مثالاً للتخطيط السائد حينذاك في الحرب الصحراوية. فلو أن الإخوان نجحوا في جعل الزلفي تقف ضدنا لكنّا قد وقعنا بين كثبان الرمل بدون ماء. وحالما أدرك الملك الخطر بعث خمسمائة رجل إليها أملاً أن يقبضوا على رسل الإخوان ويحتلّوا البلدة. وقد سمح أهل الزلفي بتردّد لرجال بن سعود أن يدخلوا بلدتهم، فهرب رجال الإخوان منها. وهكذا كاد يقع الخطر. كان أهل الزلفي في موقف حسّاس ممزقين بين ولاءين متعارضين؛ ولاؤهم لملكهم وولاؤهم لقبيلتهم. ولم يقنعهم بأنه من الأفضل لهم مساندة الملك إلا وصول قواته إليهم في الوقت المناسب. ومع هذا فإن استقبالهم لجلالته كان أقل من أن يوصف بالحماس. فبدلاً من إسراع السكان كلّهم للترحيب به، كما يحدث عادة، لم يستقبله إلا حفنة من وجهائهم يبدو عليهم القلق.

وتتكوّن بلدة الزلفي من قريتين متجاورتين. وقد أقام جلالته خيامه بين هاتين القريتين. وكان بالقرب منها جبل حوله أرض مخصبة، فأُخِذَت الإبل إلى هناك لتُرعَى. وما كِدنا نستقرّ حتى أقبلَت الإبل دفعة واحدة مسرعة إلى مخيّمنا. وكان من الواضح أنها ذُعِرت من شيء ما. وما لبثنا أن علِمنا ذلك الشيء. كان هناك رسولان، أحدهما من عتيبة والثاني من مطير، قد هبطا من الهضبة المرتفعة التي كان يخيّم فيها الإخوان. وقد أخبرا أحد جامعي العشب (الحواشيش) المحليّين قرب تلك الهضبة بأن يقول لنا إنهما قادمان على مخيّمنا في اليوم التالي.

وفي اليوم التالي المذكور قَدِم على مخيّمنا عبد العزيز بن فيصل الدويش ممثلاً قبيلة مطير وماجد بن خثيلة ممثلاً قبيلة عتيبة، وقالا للملك: لقد أرسلنا زعماء القبيلتين. إننا نطلب العفو منك، ونرجو أن تحلّ خلافاتنا بالطرق السلمية. ونحن لا نريد الحرب. ولقد علم المتمرّدون أن الغزو على قافلة بن شريدة قد أغضب الملك جداً. وإعراباً عن حُسن نواياهم أن يدفعوا ثمن الإبِل التي كانوا قد استولوا عليها. وكان جواب الملك نستطيع أن نتحاكم إلى قاضي الشرع ونرى ما الذي يحكم به. وكان القاضي المُعيَّن من قِبَل الملك ينظر في الأمور طبقاً لأحكام القرآن. وكان له أن يحكم في القضايا الجنائية. وقد أراد الملك بجوابه أن يضع زعماء الإخوان أنفسهم بين يدي القضاء الشرعي ليتبيَّن ما إذا كانت أعمالهم إجرامية في نظر الشريعة أم لا. وبما أنهم سيُتّهمون بعدد من أعمال القتل والسرقة فإنه لم يكن مستغرباً أن تكون الفكرة غير مستحبة لدى رسوليّ الإخوان. وقبل أن يغادر الرسولان بذل لهما الملك، بكرمه المعهود، هدايا من المال، ثم دعا رؤساء القبائل الذين كانوا معه وسألهم عن آرائهم في استرحام المتمردين. وكنت أراقب تجمع هؤلاء الزعماء حول الملك. وما زلت أذكر أني شعرت فجأة في تلك اللحظات بأن ما كنت أشاهده دراما عظيمة إلا أن تمثيلها لم يكن يدور تخيلاً على خشبة مسرح ضيّق وإنما يجري من أجل الحياة والموت على الامتداد الواسع للصحراء المفتوحة.

كان عبد المحسن الفرم، رئيس قبيلة جرب، أول من تكلم. وكان شديد الغضب، فصاح قائلاً: “أيها الإمام إن هؤلاء الناس جاؤوا ليخدعوك ويستدرّوا عطفك، وإني لا أريد أن أشترك في  هذا الاجتماع. سأذهب إلى المعركة وحدي”. ولدى قوله ذلك امتطى فرسه مسرعاً وكادت تعدو به لو لم يقفز ولي العهد، الأمير سعود، ويمسك به وهو يصرخ: لا تذهب. فلن تعيش حتى ترى غروب الشمس. وبعد شجار خفيف أدرك عبد المحسن حماقة ما قام به وعاد الاجتماع إلى النقاش بطريقة أكثر رصانة. وقد اتفق الجميع على أن مقترحات المتمرّدين للتّسوية السلمية غير مقبولة. لكن ابن سعود، الذي لم يكن مثل عبد المحسن الفرم مستسلماً للانفعالات الحادة، أدرك أنه ربما وُجِدَت إمكانية لحلّ مشكلاته مع الإخوان دون اللجوء إلى معركة شاملة. فبعث رسالة على رؤساء قبيلتي مطير وعتيبة يسألهم مرة أخرى أن يتحاكموا معه إلى الشرع معلناً أنه سيخضع لحكمه مهما كان.

وإعراباً عن حسن نيّته أرسل أحد علمائه على مخيم الأعداء ومعه تعليمات كل ما يستطيع من أجل تسوية الخلاف. وكان العالِم الذي أُوكِلَت إليه تلك المهمّة عبد الله العنقري، الذي كان من أبرز علماء المملكة. وكان العلماء، بوصفهم زعماء دينيين، موضع تقدير خاص من الجميع، كما كانوا في منجى من الضرر حتى في زمن الحرب. وكان من الممكن جداً أن يوثق باحترام الإخوان لذلك التقليد احتراماً تاماً، خاصة أن الشيخ عبد الله العنقري كان مسؤولاً عن الشؤون الدينية في المنطقة الواقعة حول معقل الإخوان، الأرطاوية.

وبدون انتظار إجابة رسالته أمر الملك أتباعه بأن يطووا خيامهم ويتجهوا إلى السبلة التي تقع قرب جبل طويق وتبعد عن الزلفي حوالي أربعة أميال تقريباً. وكانت تلك الخطوة معقولة لأن موقعنا في الزلفي لم يكن سليماً من الناحية الاستراتيجية. فهو سهل يشرف عليه جبل مرتفع. وإذا ما احتلّ المتمردون المرتفعات أصبح من الصعب زحزحتهم عنها. وقد قررّ الملك أن يكون هناك قبلهم. وكانت الرحلة على السبلة تمرّ فوق سفح جبل طويق المنحدر بشدة. وكان ذلك أحياناً صعباً علينا وقاسياً على إبلنا. ونزلنا أخيراً في وادٍ صغير قرب قمة الجبل. ولم يكن رجال استطلاع العدوّ بعيدين عنّا أبداً. وكنا نستطيع أن نرى بعضهم متّخذين مواقعهم على الجانب الآخر من الوادي فوق قمة تلّ صغير.

قضينا يومين في السبلة والملك ينتظر الإجابة على رسالته. وكان التوتّر عظيماً. وقد حدث ما كاد يسبب هلعاً. ذلك أن أفراداً من الروقة الموالين للملكة من قبيلة عتيبة كانوا قد ظلّوا طريقهم أخذوا يطلقون النار في الهواء لجلب الانتباه إليهم. ولم تأت الإجابة على رسالة الملك فبعث برسالة أخرى. وفي هذه المرّة أجاب الإخوان بإرسال مندوب قال للملك: إذا كنت تريد حكم الشرع فأتِ إلى مُخيّمنا واجلس مع عالمك الخاص، ودعه يحكم في الأمر. وكان لدى جلالته شك كبير حول هذا الاقتراح لكنه على أية حال دعا الزعماء الذين كانوا معه لمناقشته. وقد قرروا بالإجماع أن ذلك الاقتراح مجرد خديعة، وأن الملك إن ذهب إلى مخيّم العدوّ فلن يعود منه أبداً. واتباعاً لنصيحتهم ردّ على الإخوان بأن اقتراحهم غير مقبول. فاقترحوا حلاً وسطاً بأن يقيم الملك خيمة بين المعسكرين المتضادين وأن يقابله هناك اثنان من ممثليهم. وقد اعتبر هذا الاقتراح خطراً أيضاً فرفض. وبعد كثير من الأخذ والردّ وذهاب الرُسُل وعودتهم اتفق أخيراً على أن يقابل أحد رؤساء الإخوان الملك في معسكر جلالته وفق إجراءات أمن دقيقة.

وفي اليوم التالي علمنا أن ذلك الرئيس لم يكن إلا صعب المراس فيصل الدويش نفسه. وقد استقبل ذلك الخبر استقبالاً مثيراً. فكل واحد مِنّا كان توّاقاً إلى إلقاء نظرة على ذلك الرجل العظيم. ورغم أن الدويش كان عدوّاً لنا فإنه كان يتمتّع بجاذبية شخصية لم يتفوق عليه فيها سوى الملك نفسه. فقد كانت بسالته وجلده وصبره من الأمور الأسطورية. وكانت شجاعته المنكرة للذات تلهم أتباعه الطاعة التامة له. وحين وصل إلى مخيمنا كان غير مسلح، لكنه كان مصحوباً بثمانية خيَّالة من قبيلة مطير بوصفهم حرساً خاصاً له. وكان أحدهم ابن عمه فيصل بن شبلان. وقد اشترط الدويش شرطاً مهماً قبل أن يوافق على مقابلة جلالته وهو أن تكون خيمة الملك خاليةً إلاّ من الملك نفسه. وكانت خيمتي قريبة من خيمة جلالته. ولذلك كان موضعي جيداً لمراقبة ما كان يجري. وكان لخيمة الملك فتحة في كل زاوية من زواياها الأربع. فذهب إلى كل فتحة من هذه الفتحات اثنان من حرس الدويش. وبدقة عسكرية رفعوا كل أروقة الخيمة الأربعة في وقت واحد ليتأكدوا أن الاتفاق منفّذاً. وكان الملك وحده في الخيمة كما كان متفقاً عليه. وقد أقسم كل من الزعيمين ألا ينال الآخر بسوء. ثم أعطى جلالته الدويش الأمان التقليدي قائلاً: أنت في حمايتي، ودخلا إلى الخيمة. وقد دامت المحادثات بينهما أكثر من ساعة. ثم خرج الدويش وأمر حرسه الشخصيين بأن يلقوا السلاح لأنه قد تمّ الاتفاق على هُدنة مؤقتة. وبعد ذلك دُعِيَ الدويش إلى تناول الغداء مع الملك وأُكرِمَت وفادته إكراماً يليق بضيف مبجّلٍ مثله.

وقد أمر الملك بإجراء عرض عسكري تقليدي على شرف ضيفه، وإن كان جلالته بدون شك قد أراد من ذلك، أيضاً، التذكير بقوّته ومهارته من الناحية العسكرية. وكان أول المستعرضين الفرسان، حيث كان أفراد كل قبيلة يطلقون صيحات الحرب القديمة الخاصة بهم. وقد ألَّف الزعيم غير المهادن، عبد المحسن الفرن، شعاراً حربياً جديداً لتلك المناسبة، فصاح وهو يمرّ بالدويش قائلاً: “صبي التوحيد. أنا أخو من طاع الله. يا ويل عدوّ الشريعة منّا”. ولئلّا يفوت المعنى على المتمرّدين صاح أحد رجال القبائل التي معنا بفيصل بن شبلان قائلاً: خذها يا بن شبلان. وفي هذه الاستعراضات عثرت إحدى الخيل ببيت نمل وكسر رجلها فقُتِلَت. وأخذ الفارس العنان منها واقترب من الملك وهو يقول بأسلوبه الصحراوي الصريح: العوض يا محفوظ. فأجابه الملك: أبشر به. لكن أحد حرس الدويش الذي كان واقفاً بالقرب منه همهم: حضّر عنانها. وقد فسّر خدم الملك ذلك بأنه سخرية قصد بها لن تحصل على شيء. فغضبوا وأمسكوا بالرجل يريدون تمزيقه بسبب كلامه الطائش. ولم يتمّ اجتناب حادثة كريهة كادت تقع إلا بتدخُّل الملك شخصياً ووضعه فوراً حراسة مشددة لحماية الدويش ورجاله من أي عنف آخر.

وحين غابت شمس الصحراء ببطء خلف التلال الغربية استقبل الملك والدويش مكة وصلّيَا صلاة المغرب. وليس هناك ما يضاهي روعة الغروب في الصحراء، والكُثبان الرملية يظلّلها النور الذهبي الذي تلقيه الشمس الغاربة. لقد كانت تلك لحظة مهمة ومثيرة لنا جميعاً، خاصة جلالته الذي كان يدعو الله بحرارة أن يتم اجتناب الحرب. وقد أمضى الدويش تلك الليلة في خيمة مجاورة لخيمة الملك كانت في العادة خاصة بخدم جلالته الشخصيين. وكان ذلك لحماية الضيف من ناحية، لكنه كان، أيضاً، من أجل تمكين ابن سعود من مراقبته مراقبة حذِرة. واستمرت المحادثات خلال اليوم التالي. وعندما اقترب الليل حاول الملك مرة أخرى أن يقنع الدويش بتسوية الخلال عن طريق عرض الموضوع برمّته على محكمة شرعيّة. فأجابه الدويش بقوله: “سأتحدث مع ابن بجاد، وقد نعود غداً، لكني أنذرك بأننا إذا لم نعد فإن غيابنا يعني الحرب”. وعند غروب الشمس امتطى الزعيم المتمرّد ورجاله صهوات جيادهم وذهبوا. ويقال إن الدويش حينما وصل إلى مخيّمه أخبر ابن بجاد بأن جيش الملك كان مليئاً برجال المدن السمان الذين لا نفع فيهم حينما تقع المعركة الحقيقية. وقد سُمِعَ وهو يقول لابن بجاد: إنهم مزاود بلا عُرَى.

وقد تلك مغادرة الدويش ليلة متوتّرة في معسكر الملك حيث كان الجميع ينتظرون ماذا سيحمله صباح الغد. وكان جلالته مهتماً بشأن احتمال هجوم مباغت، فوضع حراساً متقدّمين يُسَمَّون “الظهور” بين معسكرنا وبين العدوّ، كما أمر أن تُطلَق رصاصة واحدة في أوقات منتظمة طول الليل ليبقى جنوده يقضين وإن كان قد اتخذ الحيطة فأخبر كل واحد منهم بهذا الأمر مقدّماً.

وكان اليوم التالي هو الثلاثين من شهر مارس عام 1929م (1347هـ) ومع انبلاج خيوط الفجر الأولى ارتدى جلالته لباس المعركة. وبعد صلاة الصبح أمر رجاله أن يتزوّدوا بالماء إذ أن التزوّد الكثير به مهمّ في حالة الاضطرار إلى الانسحاب بعيداً عن مواردنا خلال سير المعركة. وكان جيش الملك قد ازداد شيئاً فشيئاً طوال الأيام الثلاثة السابقة حيث وصل إليه المُوالُون من رجال القبائل والمدن المجاورة الذين كانوا توّاقين إلى زيادة حجم قوّات جلالته وإنقاص موارد خزينته في وقت واحد. فقد كان يدفع إلى كل رئيس قبيلة التحق به ستة جنيهات ذهبية وإلى كل فرد من رجال القبيلة أو سُكّان المدن ثلاثة جنيهات. ولعلّه من الصعب تحديد الحجم الذي وصل إليه جيش الملك حينذاك بدقة، ولكني أقدّره بين ثلاثين وأربعين ألف رجل. أما جيش الإخوان فكان أقلّ من ذلك بكثير إذ لا يزيد عن خمسة عشر ألفاً. بل من المحتمل أنه لم يكن أكثر من عشرة آلاف رجل. لكن رجال الإخوان كانوا محاربين أشداء عرَكَتهُم التجارب فأصبحوا شجعاناً ذوي عزيمة لا تلين. وكان جيش الملك الذي تكوّن بسرعة قد احتوى على كثير من الرجال الذين كانت تجاربهم في حرب الصحراء قليلة أو غير موجودة. ومن هنا كانت تهيّبنا من المعركة لأن الموقف كان أبعد من أن يكون مضمون النتيجة. وقد لا يأتي مساء اليوم التالي إلا وكلنا موتى أو هاربون أمام جيش الإخوان المنتصِر.

وكان من المعتاد كل صباح أن يستدعي “الظهور” الذين أُرسِلوا ليلاً إلى المعسكر ليرتاحوا ويتناولوا طعام الإفطار. ومع أن الفطور لم يكن في العادة سوى تمر وماء – أو قهوة لمن هم أسعد حظاً – فإن هؤلاء كان يعلّقون عليه اهتماماً كبيراً. فقد كان سُكّان وسط الجزيرة العربية يرون أن التمر يحتوي على كل ما يحتاجون إليه من تغذية. وكانوا يسمُّونه مسامير الرُكَب معتقدين بأنه يمنحهم قوة عظيمة. وبما أنه لم يبدُ بأن الدويش وابن بجاد قادمان فإن الملك قد أمر “الظهور” أن يبقوا في مكانهم لفترة من الزمن، على أن يرسل إليهم فطورهم فيما بعد. وفي محاولة أخيرة لتفادي الحرب بعث الملك رسولاً إلى الإخوان طالباً منهم الجواب النهائي على مطالبه. ثم أمر جيشه أن يتقدّم نحو واد يسمّى وادي ابن جار الله كان على بعد عشرين دقيقة للماشي. وكان حتى ذلك الوقت بمثابة أرض محايدة بيننا وبين العدوّ. وكان جلالته يمتطي حصاناً رائعاً. أما رجال حاشيته، وأنا من بينهم، فكانوا يسيرون خلفه على الأقدام. وخلال أحداث الساعة التالية استطعت أن أسمع وأرى بوضوح كل شيء قام به الملك.

وبينما كنا نسير قَدِمَ رجل من معسكر العدوّ واتجه نحونا وهو يصيح: أين الملك؟ أين الملك؟ فدلّوه على جلالته وقال له: أيها الإمام نرجوك أن تحفظ رؤوس قومنا وسوف نقوم بأي تعويض تريد أن ندفعه جزاء أعمالنا سواء كان إبلا أم أي شيء آخر تطلبه منا. ما نريد إلا الحفاظ على حياة قومنا. فأجاب ابن سعود بهدوء: المسألة ليست مسألة إبل فقط. لقد قتلتم أناساً، وعلى رؤسائكم أن يقفوا أمام الشرع ويلتزموا بقراره. وكان هناك تقليد في الصحراء تجعل رئيس القبيلة مسؤولاً عن أية جريمة قتل يرتكبها فرد من قبيلته حتى يعثر على القاتل الحقيقي ويحكم عليه. وفي هذه الحالة لم يتقدّم أي واحد من الرؤساء ويتحمّل مسؤولية قتل وسلب من كانوا في قافلة ابن شريدة التي كانت في طريقها إلى دمشق.

ثم عاد رسول الملك وهو يقول: سيدي. لم أستطع الوصول إليهم. فما أن اقتربت منهم حتى بدأوا يطلقون النار عليّ. فصمت جلالته لحظة ثم صاح: توكلوا على الله واستعدّوا للحرب. وانحنى إلى الأرض وأخذ حفنة من التراب ورماها في اتجاه العدوّ، اقتداء بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان المعنى الرمزي لذلك الدعاء إلى الله بأن يُشتّت شمل جيش العدوّ.

وحين اقترب جيش الملك من العدو اندلع الرصاص الكثيف من كلا الجانبين حوالي عشر دقائق. وكان العدوّ في وضع أفضل من وضعنا لأنه قد اتخذ مواقع على الجانب الأعلى من وادي ابن جار الله، وبَنى حائطاً مؤقتاً من الصخور الكبير ليحمي نفسه. وفي تلك اللحظة حالف الحظ الملك. فقد رأى الأعداء من موقعهم المرتفع عدداً كبيراً من رجال ابن سعود يعودون مسرعين إلى المخيّم فظنّوا ان نيرانهم قد أجبرت قواتهم على التراجع. وكان ذلك مخالفاً للحقيقة لأن ما كان يشاهده الإخوان عودة “الظهور” الذين كانوا متعبين بعد حراستهم الطويلة في العراء. وكان جلالته قد أمر بعودتهم إلى خلف خط النار ليتناولوا تمرَهم وماءهم. ولِظنّ الأعداء بأنهم كانا منتصرين تركوا مواقعهم الحصينة ونزلوا مسرعين إلى الأرض المنخفضة ليتعقّبوا رجال الملك.

وكان بين قوّاتنا مفرزة لا بأس بحجمها من حملة الرشاشات، مجهّزة بأربعة مدافع، تحت قيادة إبراهيم بن معمّر. وكان الملك يشك في أن الإخوان قد علموا بوجود هذه الرشاشات. ومن هنا أعطى أوامره المشددة لإبراهيم أن لا يضيع فرصة المفاجأة فيستخدمها قبل الوقت المناسب. بل عليه أن ينتظر حتى تسنح فرصة ملائمة يكون لاستخدامها فيها أعظم الأثر: فظلّ رجاله جالسين وراء أسلحتهم دون أن يطلقوا طلقة واحدة وشعورهم بالأزمة يزداد خلال المراحل الأولى من المعركة. وقد أدّى صبرهم ثمرته المرجوّة. ذلك أن الإخوان أصبحوا هدفاً ممتازاً بمغادرتهم تحصيناتهم وتقدّمهم إليهم في جماعات مُتراصّة. فأصدر ابن معمّر أوامره بإطلاق النار عليهم. وكانت النتيجة حاسمة. ففي بضع ثوان كان كل رجال القبائل المتقدّمين تقريباً قد قتلوا أو جُرِحُوا جراحاً بليغة. وحين رأى الإخوان الذين لم يصابوا ما حدث شرعوا في الانسحاب فوراً. وفي تلك اللحظة أمر ابن سعود ابنيه سعوداً ومحمداً، اللذين كانا ينتظران على الجناح الأيمن، أن يهجما بالفرسان على أفراد الجيش المنسحِب. وحين اقتربوا منهم أصبح انسحاب الإخوان فوضى؛ فقُتِل كثير منهم بأيدي فرسان الأميرين الجذلين وهم يتعقّبون مشاة العدوّ الهاربين، وحينما أدرك ابن سعود ما كان يحدث بعث إلى ابنيه يأمرهما بأن يعودا إليه. وكان، لرحمته المعهودة، قد كره القتل الذي لم يكن له مبرّر، كما أنه من ناحية أخرى كان يخشى أن يذهب فرسانه إلى أبعد مما ينبغي فيجدوا أنفسهم مقطوعين عن بقية جيشه. وقد أطاع الفرسان أمر الملك على مضض وتركوا الإخوان ينسحبون إلى الأرطاوية، دون المزيد من الأذى.

وهكذا انتهت معركة السبلة. ومن المحتمل أنها لم تدم أكثر من نصف ساعة. وقد يبدو غريباً أن يرى الإخوان المشهورون بالشجاعة يهربون بدلاً من أن يصمدوا ويحاربوا. لكن ينبغي أن يعلم أن القتال حتى آخر رجل لم يكن أبداً من تقاليد حروب الصحراء. فقد كان من المعتاد والمقبول جداً الانسحاب من ميدان المعركة متى اتّضح أن رياح الحظّ قد بدأت تهُبّ لمصلحة العدوّ. وكان للمرء أن يعيش ليحارب في يوم آخر، كما كان من السهل على القوة المنهزمة أن تتجمع مرةً أخرى. وكان الرجل الذي يفضّل أن يبقى ويحارب في مثل تلك الظروف يعتبر غبياً أكثر مما يوصف بالشجاعة. ونتيجة لذلك فإن عدد الإصابات في حروب الصحراء لم يكن في العادة عالياً. ومع أنّ آلافاً كثيرة من الرجال قد اشتركوا في معركة السيلة فإنه لم يُقتَل من جيش الملك إلا مائتا رجل تقريباً، ولم يُجرَح منهم إلا عدد مقارب لعدد أولئك القتلى. لكن خسائر الإخوان كانت، بفضل رشّاشات ابن معمّر، أعظم من ذلك، إذ قتل منهم حوالي خمسمائة رجل وجرح مثل هذا العدد تقريباً. وكانت الخسائر تعتبر في الحقيقة أعلى من المعتاد بالنسبة لمعركة صحراوية.

وبعد المعركة عاد الفرسان على معسكرنا بمعنويات مرتفعة وفي حالة غامرة من البهجة. وكان واضحاً أن الملك قد فاز فوزاً كبيراً. ذلك أن تلك المعركة كانت المرة الأولى التي عانى فيها الإخوان هزيمة عسكرية. وكان من التقاليد القديمة التي تعود إلى عهد الرومان أنه بعد كل معركة يراق فيها دم تنتهي الولاءات القديمة وتعلن ولاءات جديدة محلها. ومن هنا فإن كل رؤساء القبائل والأمراء في المعسكر أتوا إلى خيمة الملك وقدموا له ولاءهم من جديد. وكان هناك تقليد آخر وهو أن المحاربين لهم الحق في التعويض عن خسائرهم في المعركة. ومن هنا تشكَّل طابور طويل من رجال القبائل خارج خيمة جلالته يطالبون بالتعويض عمّا فقدوه في المعركة من خيل وإبل وأسلحة. ولا شك أن كثيراً منهم كان مُبالَغاً فيما ادّعاه أو كاذباً فيه تماماً. ولكن الملك كان كريماً بطبيعته، ولم يكن الوقت وقت مراعاة الحرص المالي على أيّة حال. فأعطى كل المطالبين أوراقاً مكتوبة تُخوّلهم الحصول على نقود من خزينة الدولة في الرياض.

ثم قدم إلى الملك زائر لم يكن متوقّعَاً. وكان ذلك الزائر ابن عم الدويش، فيصل بن شبلان. وقد دخل المعسكر حاملاً كومة من العشب على كتفيه لئلّا يرى وجهه أحد. وحين استوقفه بعض أتباع الملك سأل عن خيمة وليّ العهد، الأمير سعود، قائلاً: أن هذا عشب لخيله. وحين أُرشِدَ إلى خيمة الأمير ترك العشب خارجها ودخل إليها. وكان أوّل ما فكّر فيه الأمير أن ابن شبلان قد أتى ليغتاله. لكن ابن شبلان، الذي لم يكن مسلّحاً، قال فوراً: أنا دخيلك. وأرجوك أن تأخذني إلى أبيك لأني أريد أن أتحدث معه. فأُخِذَ إلى الملك وأخبر جلالته أن نساء الدويش سيأتين على معسكره في اليوم التالي. وكان هذا تقليداً آخر من تقاليد حروب الصحراء يرمز إلى قبول الرئيس المغلوب بالهزيمة. وكان من المُتّفق عليه أن يعطى نساء القبيلة المهزومة طعاماً وخيمة ويبقين لدى المنتصر ثلاثة أيام، ولا يتعرّض أحد لهُنّ بسوء لأنهن في حماية مضيفهنّ. وبعد ثلاثة أيام تعود النساء إلى أهلهن. وبعد أن بلّغ ابن شبلان رسالته أعطى أماناً حتى عاد إلى هُجَرته، الأرطاوية، التي لم تكن تبعد كثيراً عن المكان الذي كان الملك قد عسكر فيه.

وقد وقع حادث مؤسف بعد معركة السبلة. ذلك أن جماعة من رجال القبائل المتمرّدين جاؤوا إلى أرض المعركة ليروا إن كان هناك من جرحاهم من لا يزال حيَّاً، فأخطأ خدم الأمير محمد وظنّوهم غُزاة فقتلوهم. وقد غضب الملك لذلك غضباً شديداً، وهدّد بإعدام الخدم. لكن غضبه هدأ بعد أن أدرك بأن هناك خطأ حقيقياً في الموضوع. وباستثناء هذا الحادث فقد روعيت كل عادات الشهامة والفروسية، وعُولِج الجرحى من كلا الجانبين. وكان الذي يعالجهم طبيب الملك الخاص، مدحت شيخ الأرض. ومن المؤسف أنه لم يكن في وسع ذلك الطبيب أن يعمل شيئاً كثيراً؛ إذ كانت الإمكانات التي بين يديه محدودة جداً. على أنه كان أمراً جديداً في حروب الصحراء أن يوجد طبيب على أية حال. وقد وُضِعَ أحد جرحى العدو في خيمة مجاورة لخيمتي. وكان رجلاً عملاقاً قد أصيب في ساقيه كلتيهما وفي إحدى ذراعيه. لكنه لم يئنّ بالشكوى، بل ظل جالساً في الخيمة وكأنه لم يحدث له شيء. ولم تكن مثل تلك الصلابة نادرة بين محاربي الصحراء الأشداء.

وبعد أن أمضى الملك حوالي ثلاثة أيام في السبلة بعث نساء الدويش إلى أهلهن، وتهيأ لمغادرة المكان. وكان يدرك بأن مزيداً من القتال قد يكون ضرورياً لأن المتمردين الذين هربوا من السبلة يمكن أن يتجمعوا بسهولة ويتحدوه مرة أخرى. قرّر المسير إلى الأرطاوية التي لم تكن أبعد من بضعة أميال إلى الشرق. وكانت الأرطاوية أول هجرة للإخوان، كما ذُكِر سابقاً، وقد أصبحت حينذاك بلدة متوسطة الحجم. وكان يحكمها الدويش نفسه وهي مركز قوّته. وقد اختارها الإخوان المنهزمون بوصفها أنسب مكان يلجأون إليه. وكانت الطريقة الوحيدة التي يستطيع الملك أن يضمن بها إنهاء التمرّد هي أسر زعماء الإخوان، خاصة ابن نجاد والدويش. وكان يقال حين ذاك بأن الدويش كان في الأرطاوية. وكان الملك مستعدّاً لأخذ الهجرة بالقوة إذا اقتضى الأمر لكي يقبض عليه.

وفي طريقنا إلى الأرطاوية أتينا على ممرّ ضيق واجهتنا فيه جماعة مكونة من حوالي خمسين فارساً بقيادة عبد العزيز الدويش. وبجسارة عظيمة اقترب ذلك القائد من الملك وقال له: يا محفوظ. ماذا تريد؟ فقال له الملك: أريد الأرطاوية. فسأله: وماذا تريد بالأرطاوية؟ فأجابه الملك أريد أباك ولا شيء آخر. فرجاه عبد العزيز الدويش أن لا يهاجم الأرطاوية واعداً إياه بأن يحضر أباه إليه. فوافق جلالته على ذلك فوراً. إذ كان يوجد في تلك الهجرة حوالي سبعة آلاف رجل، ولم يكن من الممكن أخذها إلا بإراقة كثير من الدماء. وأمَر جيشه أن يجتنبها ويعسكر في مكان يسمى زبدة كان قد اتفق مع عبد العزيز الدويش على أن يأتي بأبيه إليه.

وقبل أن نغادر المكان أناخ جلالته ناقته ودعاني إلى الغداء معه. واحضر طبّاخه الطعام المكوّن من الرّز واللحم. وبعد الغداء امتطينا إبلنا واتجهنا إلى زبدة. وكان لجلالته ناقة أصيلة لديها قدرة طبيعية على أن تمنح راكبها أعلى ما يمكن من الراحة فوق الأرض الصخرية. وكانت تلك الناقة الرائعة قد بدت بمثابة الكاديلاك. وكان كل بعير عادي يهزّ راكبه في كل اتجاه حسب انخفاض الأرض وعلوّها لكن ناقة الملك كانت تبدو لمن يراقبها وهي تسير في تلك الأرض الصخرية كما لو كانت تسير في خط مستقيم كل الاستقامة. وإذا كان هناك نوع أصيل من الخيول العربية تمنح راكبها الراحة فإن مثل ذلك النوع نادر في الإبل. أمّا جملي فقد كان عنيداً سيء الطبع بطيء السير غير مريح. وقد مررت بأعظم تجربة مخيفة في الطريق إلى زبدة لأنه كان يسير ببطء لدرجة أني تخلّفت عن بقية جماعتي ووجدت نفسي وحيداً في مكان موحش مليء بالصخور الكبيرة. وكان الجمل عنيفاً يرميني ذات اليمين وذات الشمال وهو يحاول أن يجد موضع قدميه على تلك الأراضي الصعبة. وكنت خائفاً أن تنكسر رجله فأصبح في البريّة دون وسيلة نجاة. وفجأة رأيت بدويين. ولم يكن ذلك مما يخفّف قلقي بل مما يزيده إذ لو كانا عدوّين لكان من اليسير عليهما أن يقتلاني للاستيلاء على بندقيتي ومؤونتي. ومن حسن حظي أنهما تجاهلاني. واستمر جملي يترنّح في مسيرته. وبعد وقت، بدا لي أنه أبديّ، وصلت أخيراً إلى مكان مفتوح ورأيت الآخرين وإبلهم. ولا داعي للقول بأني لم أنل منهم إلا قليلاً من التعاطف إذ كان كل واحد منهم يظن أن إضاعتي الطريق نكتة عظيمة على أية حال.

وبعد قليل وصلنا إلى زبدة وخيّمنا هناك. وكان قد أعدّ الطعام المكوّن من رز فوقه لحم وسمن. وأخذنا ننتظر عبد العزيز الدويش وأباه. وقد أتيا في اليوم التالي، حيث فوجئنا برؤية فيصل الدويش محمولاً على نعش. وكان سبب ذلك أنه قد جُرِح في معركة السبلة؛ فقد أصابته رصاصة في أحد جنبيه وخرجت من الجنب الآخر. وكان من الواضح أن جرحه خطير جداً. وقد استغرب الجميع أنه كان لا يزال حياً. وكان أول عمل قام به عبد العزيز الدويش حين دخل مخيمنا أن رجا الملك أن يغتسل ويغير ملابسه قبل أن يقابل أباه ليتأكد من أن ثياب جلالته خالية من أية رائحة عطرية. وكان لدى سكان المنطقة فكرة بأن رائحة الطيب يمكن أن تؤثر تأثيراً سيئاً في الجراح. فاستجاب جلالته لذلك الرجال وأمر طبيبه الخاص في نفس الوقت أن يعالج فيصل الدويش. وحين التقى الزعيمان وبخ الملك الدرويش على ما ارتكبه من أعمال سيئة، ثم قال له: أنت لست كفؤاً لي، فأنا أشد بأساً. ولذلك فإني أعفو عنك. وأنت حر في الذهاب إلى أيّ مكان تريد. وسأعطيك كل ما تحتاج إليه. ولكني سأحكم على أفعالك المقبلة، حسنة كانت أم سيئة، وسأتّخذ حيالها الموقف المناسب. فأعرب الدويش عن امتنانه، وقال للملك أنه يريد الذهاب إلى الكويت. وطلب من جلالته نقوداً واسلحة وقِرَباً للماء وأدوات للتّروية. فكتب الملك فوراً رسالة على وكيله في الكويت، عبد الله النفيسي، ليمدّه بما طلب، وسلّم تلك الرسالة إلى الزعيم المتمرّد.

ولقد فوجئنا جميعاً أن نرى جلالته يدع الدويش يذهب بتلك السهولة. ولكن الملك كان أعظم ما يكون عطفاً ساعة النصر. وقد بدا في ذلك الحين أنه لن يخسر كثيراً من جراء السماح لذلك الزعيم في أن يذهب حراً طليقاً. فقد كان جرحه خطيراً للغاية، وكان من شبه المؤكد أنه سيموت بسببه. وكان هناك سبب آخر قد يكون أهمّ من ذلك. كان جلالته حريصاً على القبض على ابن بجاد، وقد أدرك أن هذا الزعيم سيكون أقل تمنُّعاً في تسليم نفسه طواعية حين يسمع بالمعاملة التي لقيها الدويش. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك أمر من الممكن أن الملك قد علمه فراعاه، وإن كنت شخصياً غير عالم به. فبعد سنوات من تلك المعركة أخبرني ابن فيصل ابن شبلان، الرجل الذي سبق أن ذكرت مجيئه متنكراً إلى خيمة الأمير سعود في السبلة، أنه كان هناك خمسة آلاف رجل من رجال الدويش يحيطون بمخيم ابن سعود سراً حين أتى إليه زعيمهم مع قليل من خدمه، وكانوا مستعدين للهجوم على المخيّم إذا لم يترك ذلك الزعيم حراً.

وبعد الاجتماع بالدويش أرسل جلالته إلى ابن بجاد يطلب منه أن يقابله في بلدة شقراء. وحينئذ اتجه هو وحاشيته إلى المجمعة حيث بقينا يومين. وقد نزل الملك هناك لدى الشيخ إبراهيم العنقري، الذي كان أحد العلماء المشهورين وقاضي منطقة سدير. ثم سرنا إلى شقراء، التي كانت تبعد حوالي خمسين ميلاً جنوباً بغرب، وانتظرنا بصبر لنرى ما إذا كان ابن بجاد سيستجيب لطلب الملك أم لا. وكان ابن بجاد رئيس قبيلة عتيبة التي تمتد مناطقها من الرياض إلى مكة المكرمة والتي كانت أكبر بكثير من قبيلة مطير. ولهذا كان أقوى من الدويش بالنسبة لعدد الرجال الذين كانوا تحت قيادته. لكن الملك كان يعتبر الدويش أعظم خطراً منه، لأن الدويش كان ذكياً ماكراً بشكل غير عادي. أما ابن بجاد فرغم شجاعته وصلابته فإنه لم يكن مشهوراً بنفاذ الرأي. وقد تلقّى الطعم وقدم إلى الشقراء مع حوالي خمسين رجلاً من قبيلته. وكان بدون شك ينتظر أن يُعامَل كما عُومِل الدويش. لكن في ذلك الوقت لم يكن هناك حينئذ جنود من الأعداء يحيطون بمخيّم الملك. فأخذ جلالته يوبّخه بقوله: أنت لست شيئاً يا ابن بجاد. كنت تظن نفسك كبيراً. ولكن الدويش هو الذكي. ثم القى القبض على ابن بجاد ومن معه بسرعة وأُرسِلُوا مقيّدين إلى الرياض.

وبعد أن غادرنا شقراء ذهبنا على حائل عن طريق بريدة والرس. وبينما كنا في بريدة ذهب الملك فجأة إلى عنيزة حيث تزوج فتاة من أسرة الشبيلي المشهورة. وكان هدفه من ذلك الزواج التعبير عن امتنانه وتقديره لأهل عنيزة الذين منحوه دعماً قوياً ضد الإخوان. وكان قد أمر أتباعه أن يسيروا إلى الرس وينتظروه هناك. غير أن اثنين من كُتّابه لم يتقيدا بأمره وذهبا إلى عنيزه. وكانا ببساطة حريصين على زيارة تلك البلدة، ولم يفكرا أن جلالته سيعارض في زيارتهما لها. وفي المساء دخلا مجلس أميرها. ولسوء حظهما وصل الملك نفسه إلى مجلس الأمير بعد قليل من وصولهما إليه وشاهدهما متلبسين بجريمة مخالفة أمره. فأمر بسجنهما، ولم يطلق سراحهما إلا بواسطة الأمير لدى الملك حين قال: أنتم جميعاً ضيوف في بلدتي، فأرجوك أن تعفو عنهما. ولم يكن الملك قد أخبر أحداً بعزمه على الزواج، فكان ذلك مفاجأة تامّة لنا حينما وصل إلينا في الرس وأنبأنا بأن معه زوجة جديدة.

وحين وصل الملك إلى الرسّ واجهته مشكلة دبلوماسية دقيقة. فقد كان معه في السبلة الشيخ صالح بن عذل، أحد وجهاء الرس والذي كان يعتبر من أعقل الرجال في نجد. وحين علم بأن الملك سيزور بلدته رجاه أن يتغدى معه في بيته. ووافق الملك على ذلك. وبعد أن وصل جلالته إلى الرس دعاه أميرها إلى الغداء. فاضطر الملك إلى الاعتذار موضحاً بأنه قد سبق أن وافق على الغداء مع الشيخ صالح بن عذل، وأنه لن يقيم في البلدة إلا يوماً واحداً. فاغتمّ الأمير وقال: إذا لم تقبل دعوتي سأترك البلاد ولن أعود إليها. فقرر الملك أن يحلّ تلك المشكلة بطريقة ذكية، واقترح أن يعدّ طعام الغداء من قبل الشيخ صالح ويؤكل في بيت الأمير. ورضيا بذلك الحلّ الوسط. ولأن بيت الأمير لم يكن من السعة بحيث يكفي أتباع الملك كلهم فقد وزعنا إلى ثلاث مجموعات طبقاً لما هو معتاد في الديوان الملكي في الرياض. وأرسلت كل مجموعة لتناول الغداء في بيت من بيوت البلدة. أما بقية الأتباع فقد وُزِّعُوا بين السكان. وذهبنا جميعاً إلى البيوت التي خُصِّصت لنا.

وقد حدثت في البيت الذي خصص لأتناول الغداء فيه حادثة مؤسفة. فقد جرت العادة في الرياض أن يقدم اللحم فوق الرزّ. ولكن العادة في الرسّ كانت تختلف عن ذلك إذ يتقدم الرز قبل اللحم. وحين جيء بالرُزّ غضب رئيس الديوان ظانّاً أننا قد أُهِنّا بعد تقديم اللحم لنا. فخرج من البيت وأمرنا أن نتبعه. وبينما كنا في طريقنا للخروج من البيت وصل اللحم فأحرجنا إحراجاً شدداً لأن العادة المتبعة أن لا يعود المرء إلى مائدة الطعام بعد أن يقوم منها. ونتيجة لذلك كان علينا أن نغادر البيت ونمضي دون غداء. ومما زاد الأمر سوءاً أن المضيف شكانا إلى الملك لما اعتبره إهانة له بمغادرتنا المفاجئة لمائدته.

وينبغي أن نذكر أن الأمراء لم يكونوا معيّنين من قِبَل الحكومة، بل كان أهل البلدة ينتخبونهم. وقد تعيّن الحكومة في حالات نادرة، خلفاً للأمير المتوفي، ولكنها عادة تحترم رغبات السكان وتعترف بها. وكان الأمراء موالين للحكومة، كما كانوا يُعتَبَرُون مالكين لبلدانهم.

وبعد مغادرة الرس واصل الملك سيره إلى حائل، عاصمة آل رشيد سابقاً ومعقل قبيلة شمّر التي كانت مشهورة في أرجاء جزيرة العرب لا بشجاعة رجالها فحسب وإنما بجمال نسائها أيضاً. وقد بلغت شهرة بنات حائل درجة جعلت خيال كل فرد منا يحلق في أجواء بعيدة، وأصبحت الرغبة العامة لدى الجميع التزوج من هناك دون أي تأخير. وقد تزوج كثيرون فعلاً، بنات من تلك المنطقة. ومن بين هؤلاء هندي كان أحد سائقي سيارة الملك. وكانت قد سحرته القصص التي سمعها عن الجمال في المنطقة فتصور أن كل فتاة فيها لديها قسما كليوباترة، وعبّر عن رغبة عارمة في الزواج. وقد وعده بعض أصدقائه أن يرتّبوا له فوراً زواجاً من عذراء حلوة. ووُجِدَت الفتاة. وبُدِئ باتخاذ إجراءات مراسيم الزواج. ثم تمّت تلك الإجراءات أمام القاضي الشرعي المحليّ. وكان والد الفتاة حاضراً، ولكن الفتاة نفسها إن كانت موجودة فقد كانت وراء حجاب. ذلك أن الرجل لم يكن ليرى زوجته بدون حجاب إلا ليلة الزواج. وعندما حلّ الظلام سار أصدقاء ذلك الهندي المشوق معه إلى خيمة زوجته الجديدة. وهناك رجوا له ليلة سعيدة وتركوه. ومع بزوغ فجر اليوم التالي علت صرخة غاضبة من فراش العرس، وخرج الهندي من الخيمة، وطلق زوجته فوراً. وليس في الإمكان إلا التصور بأنه في ضوء الفجر البارد اكتشف أن الفتاة التي قدمها إليه أصدقاؤه لم تكن كليوباترة أحلامه تماماً.

وبعد مغادرة حائل سافر الملك وحاشيته إلى الحجاز ليؤدي الحج الذي كان قد حدث ما أوقفه عنه قليلاً. ورتّب أن تتبعه أسرته وزوجته الجديدة على هناك فيما بعد. وبينما كان في الحجاز أمر بإطلاق سراح بعض أهالي مكة المكرمة وجدة البارزين الذين كانوا تحت الإقامة الجبرية بتهمة التآمر، وقد وصلت إليه في جدة برقية من البحرين تحمل أنباء سيئة مفادها أن الأمير فهد بن جلوي قد قتله أفراد من قبيلة العجمان. وكان ذلك صدمة شديدة لجلالته لأن فهداً كان صديقاً عزيزاً لديه. فقد كان يحمي جناحه الشرقي خلال معركة السبلة والظروف المحيطة بها، تماماً كما كان عبد العزيز بن مساعد، أمير حائل، يصدّ هجمات ابن مشهور في الشمال. وكان من المحتمل أن يخسر الملك تلك المعركة لولا مساعدة كل من فهد وابن مساعد، وكلاهما من أبناء عمومته.

ولم تكن معركة السبلة، كما سنرى، نهاية متاعب الملك مع الإخوان. ولكنها قد كسرت ظهر حركتهم، وأوضحت للجميع أن ابن سعود عازم على أن يكون سيد بيته، وأنه لن يقبل ان ينتزع الآخرون منه سلطته. كما أن تلك المعركة قد أحدثت آثاراً بعيدة المدى ظلّ الناس يشعرون بها فترة طويلة. ذلك أن تلك القبائل أو بطون القبائل، التي انضمّت إلى التمرّد صارت موضع ازدراء سنوات عديدة، بينما حظِيَت القبائل التي أيّدت الملك بالرضى. وعند وفاة جلالته، بعد أكثر من عشرين عاماً، كانت تلك الآثار لا تزال عاملاً مهماً في سياسة الجزيرة العربية.

قائمة المحتويات