بَكَى صَاحِبي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ

وَأَيْقَنَ أَنَّا لاَحقَانِ بِقَيْصَرَا

فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا

نُحَاولُ مُلْكَاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا

(امرؤ القيس)


حينما جلت أسرة آل سعود من الرياض سنة 1890م التجأت أول الأمر إلى البحرين حيث رحّب بها حاكمها الشيخ عيسى بن خليفة. وقد شعر هذا الشيخ بموّدة تجاه الأمير الشاب، عبد العزيز، وأصبح صديقاً ومستشاراً له طيلة حياته. ومع أن ترحيبه بالأسرة السعودية كان عظيماً وأن ضيافته لها كانت كريمة فإنه لم يكن في مقدوره ما يعمله ليساعدها في استعادة حكمها. ومن هنا فإن عبد الرحمن بن فيصل قرر بعد فترة قصيرة ألا يركن إلى الراحة. فذهبت الأسرة وأتباعها إلى قطر حيث اتضح، أيضاً، عدم فائدتها كقاعدة قوة. وكان أن قضت الأسرة زمناً تتنقل مع قبيلة آل مُرّة في الربع الخالي وكان لدى عبد الرحمن آمال في أن يستطيع إقناع رجال القبيلة هناك ليقوموا بثورة علنية. لكن آماله لم تتحقق. ذلك أنه كان لدى أولئك البدو الأشداء من مشاكل حياتهم في تلك الصحراء المقفرة ما يكفيهم عن الاهتمام بمن يسيطر على مدينة الرياض البعيدة عنهم. وفيما عدا بعض الغزوات المتقطعة لم ينجز عبد الرحمن من الأعمال ما يمكن أن يؤثر حقيقة في سلطة آل رشيد. لكن الإقامة في الربع الخالي لم تخل من فائدة؛ فهو من أشدّ الصحاري على وجه الأرض قسوة. والبقاء فيه والتجوال حوله والقتال عليه أمور تحتاج إلى مهارة فائقة. ورجال قبيلة آل مُرّة لديهم هذه المهارة. وقد لقّنوا الشاب عبد العزيز كثيراً منها. وهكذا اكتسب ذلك الأمير خبرة في أمور الصحراء ستظل مفيدة له فائدة عظيمة طيلة حياته.

وأخيراً وجدت الأسرة السعودية لها ملجأً ثابتاً في الكويت حيث حلّت في ضيافة آل صباح. وهناك أمضى عبد الرحمن بن فيصل وابنه حوالي عشر سنوات بلغ الأمير عبد العزيز خلالها سن الرجولة. ولا شك أن الشيخ مباركاً كان يعتبر استضافته للأسرة السعودية ذات الشهرة العالية عملاً جليلاً يرفع مكانته في وسط جزيرة العرب. ومن المؤكد أنه كان يطمح إلى توسيع نفوذه بمساعدته لعبد الرحمن وابنه على محاربة ابن رشيد. ولهذا السبب أمدَّهما بالرجال والإبل والمؤن ليقوما بغزوات متعددة داخل نجد. وقد استطاع عبد الرحمن، أيضاً، أن يحصل على مساعدة مالية صغيرة على شكل تقاعد من السلطات التركية في البصرة. وقد يبدو هذا الأمر غريباً إذ كان الأتراك، أيضاً، يساعدون ابن رشيد. لكن من الواضح أنهم لم يكونوا مخادعين أو أغبياء. كانت سياتهم ببساطة أن يقدّموا مساعدة لأي أمير عربي يبدو جديراً بها. وكانت السياسة الداخلية في جزيرة العرب في وضع لا يتوقع من الأتراك أن يدركوا خفاياه ويعرفوا من كان من الزعماء يغزو الآخر في الصحراء.

ولما بلغ الأمير عبد العزيز بن سعود عشرين سنة من عمره كان قد اتضح أن الله قد ميزه عن غيره وهيأه لأمور عظيمة. كان يمتاز عن رفاقه من حيث التكوين الجسماني إذ كان طول قامته ستة أقدام وبوصتين. وهذا طول أخَّاذ غير عادي بالنسبة لرجل من صحراء بلاد العرب. وكان كل شيء آخر من ملامحه في مستوى عظيم؛ من أنفه القويَّ البارز إلى شفتيه الممتلئتين، إلى لحيته الجميلة. فكانت لديه الهيئة الطبيعية للملوك. وكان جميلاً جليلاً في حركاته. أمّا بالنسبة للفروسية فكان من عظمائها، وكان منذ صباه يحمل جاذبية وعظمة يتعذر على من عرفهما أن يصفهما بالكلمات المجردة. وباختصار كان قد ولد قائداً. وقد تمكن وهو لا يزال في الكويت أن يجتذب إليه مجموعة لها وزنها من الأتباع الشخصيين.

وما أن حلّت سنة 1900م حتى اقتنع الشيخ مبارك بمساعدة عبد الرحمن بن فيصل في حملة عسكرية كبيرة ضد ابن رشيد. كان مبارك في وضع قوي لأنه متصل بالخليج العربي بينما كان ابن رشيد محصوراً في نجد. ومن المحتمل أن الشيخ مباركاً كانت تراوده، حينذاك، آمال في ضم جزء من وسط الجزيرة العربية إلى نفوذه. ومن هنا جهّز جيشاً ضخماً فيه عدد من زعماء قبائل مهمة، كفيصل الدويش، واتّجه نحو القصيم. لكن بالرغم من انضمام مجموعة قوية من قبيلتي العجمان ومطير إلى الحملة فإن نهايتها كانت كارثة. ذلك أن عبد العزيز بن رشيد هزم الشيخ مباركاً وعبد الرحمن بن فيصل في معركة الصريف قرب بريدة. ثم تعقّب فلول جيشهما إلى الكويت دون هوادة. ولم يستطع الشيخ مبارك أن يصدّ هجوماً على الكويت ذاتها إلا بإقناع البريطانيين أن يرسلوا طرَّاداً بحرياً يقصف معسكر ابن رشيد مما أجبر هذا الأخير على أن ينسحب إلى عاصمته حائل.

وكان الشيخ مبارك قد اتفق مع الأمير عبد العزيز بن سعود، قبيل معركة الصريف على أن يتجه الأمير نحو الرياض بينما يتجه مبارك وعبد الرحمن بن فيصل لمحاربة ابن رشيد في القصيم. وكان هذا الإجراء يهدف إلى أمرين: إشغال الخصم بمعارك جانبية، وتمكين الأمير من اختبار حظه في استعادة الرياض عاصمة أجداده. وبينما كان الأمير في طريقه نحو الجنوب هاجم فريقاً من قبيلة قحطان كان في روضة سدير، وقتل زعيمه نزهان بن مريحة. ثم هاجم فريقاً آخر من قحطان كان بزعامة فيصل بن حشر آل عاصم. وحين وصل إلى الرياض لم يلق مقاومة، فاستطاع أن يدخلها برجاله. وكان أهل الرياض توّاقين لاستقبال أي فرد من آل سعود لشدة تبرّمهم من حكم آل رشيد. وقد لجأ أمير ابن رشيد، عبد الرحمن بن ضبعان، مع رجاله إلى قلعة المدينة حيث تمّ حصاره. وحين رأى عبد العزيز أن الحصار قد يطول حاول أن يحفر نفقاً تحت القلعة. لكنه علم بعد ثلاثة أيام بهزيمة أبيه والشيخ مبارك في الصريف فدعا كبار أهل الرياض وأخبرهم أنه ذاهب ليجمع أعواناً من القبائل المجاورة ثم يعود إليهم. وكان ذلك في الحقيقة مجرّد حجة لمغادرة المدينة بعد أن أصبح موقفه حرجاً حينذاك. أمّا أمير ابن رشيد فكان لا بد له أن يظل محصوراً في القلعة مع رجاله مثل “أرانب في جحرها” على حد تعبير ابن سعود. وبعد أن غادر عبد العزيز الرياض اتجه جنوباً نحو يبرين على حافة الربع الخالي، ومضى من هناك إلى قطر حيث أبحر مع عدد قليل من رفاقه إلى البحرين ثم عاد إلى الكويت. وكان حينذاك قد استنتج أنه لا يمكنه الاعتماد على قيادة الشيخ مبارك، وأن عليه أن يضع مستقبلاً، خطّته الخاصة به للاستيلاء على الحكم. وقد عزم على أن يقوم بحملة أخرى ضد الرياض في المستقبل القريب دون أن يطلب مساعدة الشيخ مبارك.

كان والد الرجل الذي حدّثني بالقصة السابقة يُدعى عبد العزيز بن جاسر آل ماضي. وكان في ذلك الوقت أميراً لروضة سدير. وقد مُنِع هو ورجال بلدته حامية ابن رشيد من إطلاق النار على ابن سعود حينما قامت قواته بمهاجمتها وأخبر ذلك الأمير رجال الحامية المذكورة بأنهم إذا كانوا يريدون أن يقاتلوا ابن سعود فعليهم أن يقوموا بذلك بعيداً عن بلدته. ونتيجة لذلك بعث ابن رشيد سليمان القريشي لمعاقبة الأمير وسكان البلدة لعدم ولائهم له، كما أظهر غضبه على ابن ضبعان فعزله عن إمارة الرياض وعيّن فيها رجلاً اسمه عجلان بدلاً منه.

ولقد كان من الواضح أن حظ الأسرة السعودية قد وصل إلى أدنى مستوى في الوقت الذي انسحب فيه عبد العزيز بن سعود ليلتحق بأبيه في الكويت، فلم يعد الشيخ مبارك ميّالاً إلى القيام بمغامرة عسكرية أخرى. ومع أن عبد العزيز وأباه كانا لا يزالان موضع الترحيب في الكويت فقد اتضح أن رصيدهما من النوايا الطيبة يتلاشى تدريجياً. وكان عبد العزيز، فيما بعد، يقول أنه كان يشعر بأن في وجوده ثقلاً على السكان وأن هذا الشعور ازداد قوة لديه بعد معركة الصريف. ففي الكويت، كما في كل مكان آخر من جزيرة العرب، كان من عادة الأسرة المختلفة أن يتزاوروا في مجالسهم خلال ساعات المساء. وكان من العادة أن يُعْطَى ابن سعود مكان الصدارة في مجالس أصدقائه الكثيرين. لكنه لاحظ بعد معركة الصريف أن هذا الأمر قد بدأ يقلّ حدوثه. فأدرك أن مكانته تتضاءل بسرعة لا في الكويت وحدها وإنما في نجد أيضاً. ولكي يحقق آل سعود أي انتصار على ابن رشيد كان عليهم أن يحصلوا على مساعدة القبائل التي تعيش في المناطق الخاضعة لحكمه. ولكن عبد العزيز بن سعود كان يعتقد أن هذا الأمر لن يتحقق في زمن قصير. وكان يدرك أن أحسن وسيلة، أو أن الوسيلة الوحيدة، لاستعادة مكانته أن يقوم بهجوم مفاجئ جريء داخل أراضي ابن رشيد يثير به إعجاب رجال القبائل ويمكنّه من كسب الأتباع الذين يحتاج إليهم. ولذا فقد قرر أن يحاول الاستيلاء على الرياض رغم أن ذلك قد بدا فكرة انتحارية.

وكان اختيار مدينة الرياض مهمّاً لأنها كانت مقر حكم آل سعود، وكان لا يزال يوجد في منطقتها تأييد كبير لعبد الرحمن بن فيصل. أمّا بالنسبة لابن رشيد فلم تكن تلك المدينة ذات أهمية خاصة. وكانت، كغيرها من المدن التابعة له تدار من قِبَل حاكم تساعده حامية صغيرة. ولعله من الإنصاف لكل من حاكمها عجلان وابن رشيد نفسه أن يقال أن أهل الرياض لم يكونوا يحكمون بطريقة تعسفية خاصة خلال السنوات التي كانت فيها مدينتهم تحت حكم آل رشيد. ومع ذلك فقد كان هناك زعماء ورجال قبائل كثيرون غير راضين بالتبعية لابن رشيد، وكان يسعدهم جداً أن يروا آل سعود يستعيدون مكانهم الشرعي في نجد.

ومن المحتمل جداً أن مدينة الرياض كانت سنة 1901م مثلما كانت سنة 1926م حينما التحقت بخدمة جلالة الملك. كانت محاطة بسور خارجي مبني من الطين يبلغ ارتفاعه حوالي عشرين قدماً وفي جهة من جهاته الأربع بوابة ضخمة. وكانت المدينة ذاتها صغيرة لدرجة أن عرضها لم يكن، على الأرجح، أكثر من ألف وخمسمائة متر في أوسع نقاطه. وكان في داخلها طرقات متعرجة يبلغ ضيق بعضها حدّاً يجعل من الصعب أن يسير فيه رجلان جنباً إلى جنب.

وكانت المساحة المفتوحة الوحيدة فيها هي السوق المركزي الذي كان يطل عليه الجامع الكبير من جانب ويطل عليه القصر الذي كان قد اغتصبه ابن رشيد من الجانب الآخر. وكان يوجد قربه سوق صغير معدّ للنساء. وكانت جميع بيوت المدينة مبنية من لَبِن الطين. وكان حوالي نصفها من طابقين. أمّا بقيتها فكانت من طابق واحد. وكانت الجهة الخارجية لجدرانها خالية من أية معالم سوى نوافذ صغيرة ترى في بعضها أحياناً.

وكانت مدينة الرياض قبل سنة 1890م محاطة ببساتين النخيل البديعة. لكن حينما حاصرها محمد بن رشيد قطع كثيراً من أشجارها دون مبرر. وكان ذلك العمل مما غرس البغض المستمر له في نفوس السكان. وكانت عملية اقتحام ابن رشيد لاستحكامات المدينة قد سبّبت أضراراً بالغة لسورها الخارجي. ولم يفكّر هو ولا ابن أخيه من بعده أبداً بأنه يستحق أن يصلح من جديد. فظلت مواضع كثيرة منه متهدمة. ومع ذلك بقيت المدينة صعبة الاقتحام. كان في كل بوّابة من السور برج يحتلّه رجلان أو ثلاثة رجال للحراسة. ومع أن جدران السور كانت بدون حراسة فقد كان بالإمكان إرسال رجال إليها بسرعة ما دعت الضرورة. وكان في داخل المدينة قلعة مركزية قوية تضم حامية مكونة من خمسين أو ستين رجلاً ونتيجة لهجوم عبد العزيز بن سعود الأول على الرياض كان يدرك أنه لا يملك القوة الكافية للاستيلاء عليها بالقوة. ومن هنا خطط أن يستولي عليها بالحيلة.

ومرة أخرى اتصل ابن سعود بالشيخ مبارك طالباً مساعدته، خاصة بالإبل التي كان يحتاج إليها. ومن المحتمل أنه أخبره بأنه يخطط لغزو، لكنه لم يشر إلى حقيقته لئلا يجعله يظن أن نجاحه بعيد الاحتمال وأعطاه الشيخ على مضض ما كان يريده من الإبل. ولم يكن مستغرباً أنه لم يعطه أحسن إبله، وإنما أعطاه من حثالتها أربعين بعيراً مريضة كبيرة السن. واختار الأمير عبد العزيز عدداً قليلاً من أتباعه المخلصين ليسيروا معه وفي نهاية عام 1901م، وعمره لا يتجاوز إحدى وعشرين سنة، كان مستعداً ليقوم بمغامرته الكبرى. [1]

أمضى ابن سعود ورفاقه حوالي عشرة أيام منذ انطلاقهم من الكويت حتى وصلوا إلى الرياض. وكانوا يسيرون ليلاً ويختفون نهاراً بين الصخور وكثبان رمال الصحراء. وحين وصلوا إلى ضواحي الرياض في يناير سنة 1902م كمنوا بين الشجيرات الموجودة هناك حتّى خيّم عليهم الليل. ولما كان يتحلّى به عبد العزيز طيلة حياته من احتفاظ بسرّ تحركاته فإنه لم يطلع أحداً على حقيقة نواياه حتى تلك اللحظة. وفي هجعة الليل خاطب رفاقه بقوله: أصدقائي الكرام المخلصين. إني عازم على دخول المدينة والاستيلاء عليها هذه الليلة. فمن يرغب مرافقتي فأهلاً وسهلاً. ومن هو متردد فليبق في مكانه. وإذا طلع الفجر ولم تتلقوا مني أية كلمة فاهربوا لإنقاذ حياتكم. وإذا كتب لنا النجاح فمن أراد أن ينضم إلينا فحيّاه الله.

ولقد بدا طلب عبد العزيز ميؤوساً منه لدرجة أنه لم يتطوع لدخول المدينة معه إلا حفنة من رجاله في طليعتهم ابن عمه عبد الله بن جلوي. وقاد الأمير هذه القوة الصغيرة إلى جانب من السور كان يعلم أنه مناسب لهدفه. واستطاعت تلك القوة بالحبال والكلاليب الحديدية أن تتسلّق السور وتدخل إلى المدينة دون أن يلاحظها أحد. وكان كثير من بيوت الرياض ملاصقاً لسورها لدرجة أن السور ذاته كان يشكل الجزء الخفي منها. وحين تسلّق الأمير وأصحابه السور هبطوا على سطح بيت رجل كان خادماً في القصر أيام حكم أبيه. وكانت زوجة ذلك الرجل في حقيقة الأمر قد ربّت الأمير في أيام طفولته. ولما نزل مع رجاله من سطح البيت إلى باحته وجدوا المرأة تعتني بمعزها فصاحت: من هناك؟ فقال لها الأمير: “بس. ما فيه غير عبد العزيز”. وحين أدركت أن ذلك كان حقيقة فاضت دموعها من الفرح ورحبت به ترحيباً حاراً. فقال لها الأمير يكفي ما سمعته من كلمات الترحيب وأخبريني بكل ما تعلمين عن عجلان أمير الرياض. ومرت فترة قصيرة قبل أن تدلي المرأة بما لديها من معلومات. وحين هدأت من صدمتها صارت حريصة على أن يشاركها ضيوفها غير المتوقعين حليب معزها. لكن عبد العزيز أصرّ على أن تجيبه أولاً عما طلبه منها. فأخبرته أن من عادة عجلان أن ينام ليلاً في القلعة التي كانت بطبيعة الحال موصدة الأبواب كثيفة الحراسة. وبعد صلاة الفجر كل يوم يخرج من القلعة عن طريق بوّابتها الرئيسية ويدخل بيتاً مقابلاً لها تماماً كان يمتلكها وتسكنه إحدى زوجاته [2]. وكان من الواضح أن تلك اللحظة أنسب وقت لمداهمة عجلان. ومن هنا قرر الأمير أن يضرب ضربته خلالها.

تسلّل عبد العزيز ورجاله دون أن يراهم أحد عبر الشوارع الصامتة ودخلوا بيتاً خالياً قرب بيت زوجة عجلان. ثم صعدوا إلى سطحه وقفزوا من السطح إلى آخر حتى وصلوا إلى بيت الزوجة المذكورة. وبهدوء تام دخلوا غرفتها. وقد عثر أحدهم فأيقظها. لكن قبل أن تتفوّه بأية كلمة وضع عبد العزيز يده على فمها وهمس إليها أن تصمت، وأخبرها أن حياتها ستكون آمنة إن هي لزمت الصمت والهدوء. وحينئذٍ أخذ هو ورجاله يشربون من قهوة عجلان. وظلوا ينتظرون بزوغ الفجر وظهور عدوهم من القلعة. وكان بناء البوّابة الرئيسية للقلعة بناءً تقليدياً. كانت كبيرة بحيث تكفي أن يمرّ عبرها عدد كبير من الرجال والإبل. وفي وسطها خوخة تحت الحراسة الدائمة. وكانت هذه الخوخة مصممة على أساس ألا يمرّ عبرها الإنسان إلا إذا أحنى رأسه مما يتيح للحارس أن يتغلّب عليه دون صعوبة إذا اتضح أنه غير مرغوب فيه. ولم يكن هناك سوى بضع ياردات بين تلك البوابة وبين بيت عجلان.

وبعد صلاة الفجر ظهر عجلان، كما كان متوقعاً، عبر خوخة البوابة إلى الشارع. وكان عبد العزيز يرقب تحركه من خلال ثقوب في باب المنزل. وقف عجلان المغرم بالخيول، كعادته، يلطف خيله المربوطة خارج القلعة. وكان عبد العزيز قد خطط أن يهجم عليه بعد دخوله إلى منزله، لكن منظر عدوّه على بعد خطوات قليلة منه كان فوق ما يستطيع احتماله. وفي صيحة عنيفة من صيحات الحرب فتح الباب وانقضّ على عجلان بهجومٍ مفاجئ. ومع أن عجلان أخذ على حين غرّة، فقد استطاع أن يدافع عن نفسه لمدة كفته أن يتقهقر إلى بوابة القلعة. وبينما كان يهمّ بدخولها عبر الباب الصغير أمسك به عبد العزيز من ساقه وحاول أن يسحبه إلى الوراء. لكن عجلان استطاع أن يفلت من قبضته ويلقي بنفسه داخل القلعة حتى وصل إلى مسجدها وعبد العزيز ورجاله يطاردونه بلا هوادة. وكان أن قُتِلَ داخل المسجد بسيف ابن عم عبد العزيز، عبد الله بن جلوي.

أما الحامية فقد شلّتها المفاجأة عن أية حركة. وكان أغلب رجالها في الطابق الأول من القلعة. وبذلك لم يكن لديهم وقت كاف للنزول ونصرة عجلان. وكانوا جماعة متنافرة التكوين تشتمل على أفراد من قبيلة شمَّر وبعض الخدم والحرس الشخصيين. وكانوا قد فقدوا معنوياتهم تماماً نتيجة لصدمة الهجوم وموت قائدهم، كما أنهم خدعوا بجسارة هجوم عبد العزيز فظّنوا أنه قد غزا المدينة بقوة كبيرة. وقبل أن يكون لديهم من الوقت ما يكفي للتفكير في القيام بأي عمل مضاد انطلق عبد العزيز بشجاعة إلى وسط الباحة وأعلن نفسه لهم قائلاً: لا معنى للمقاومة الآن بعد موت عجلان. ثم وعدهم بالإبقاء على حياتهم إذا استسلموا. وكان أن ألقى رجال الحامية سلاحهم فوراً ووُضِعُوا في زنزاناتهم. ولم يُقْتَل من أتباع ابن رشيد سوى عشرة رجال. أما أتباع عبد العزيز بن سعود فلم يفقد منهم رجل واحد.

وفي لحظة النصر صعد أحد رجال عبد العزيز إلى أعلى برج في القلعة وأعلن في المدينة: “الحكم لله ثم لعبد العزيز بن سعود. أنتم في أمان وضمان.” وهكذا بعد اثنتي عشرة سنة من النفي استعاد ذلك الأمير عاصمته من ابن رشيد وبقي عليه أن يفوز ببلاده كلها.


[1] لأن الرجال الذين رافقوه في مغامرته مهمون في تاريخ بلادنا فقد أفرد الملحق الخامس من هذا الكتاب لذكر أسمائهم.

[2] كانت من أسرة الحمد من أهل الرياض. ويقال إنها أخت للملك عبد العزيز من الرضاعة.

قائمة المحتويات