“صبِيُّ التوحيدِ، أنا أخو من طاع الله، يا ويل عدو الشريعة منا”

“انشودة حرب. عبد المحسن الفرم”


لم يكن حزن الملك عند سماعه بموت فهد بن جلوي شيئاً يذكر بالقياس إلى ألمه حين علم بالظروف التي وقع فيها موته. فكما سبق أن ذُكِر كان فهد، خلال أحداث معركة السيلة، يحمي جناح الملك الشرقي ضدّ الإخوان المتمردّين من قبيلة العجمان في الأحساء. وعندما سمعت هذه القبيلة نتيجة المعركة قرّرت أن الوقت قد حان للتفاوض، وبعث رئيسها، ضيدان بن حثلين، على فهد يخبره بأنه يرغب في لقائه. واتّفق الطرفان على أن يأتي ابن حثلين إلى معسكر فهد في مكان يسمّى الصرّار. وظل الرجلان يتحادثان خلال معظم ساعات النهار، ولكن الليل حلّ وهما لم يصلا إلى اتفاق. فطلب فهد من ضيدان أن يبقى عنده تلك الليلة. لكنّ ابن حثلين قال له: أرجوك أن تبقيني لأني قد ذكرت لأتباعي إن لم أعُد إليهم عند منتصف الليل فليأتوا إليّ. فاعتبر فهد هذا الكلام تهديداً له وفقد أعصابه. ثم أمر خدمه بأن يقيدوا ابن حثلين ويُبقوه في إحدى الخيام. ومرّة أخرى أنذر ضيدان فهداً بأن تصرّفه معه غير حكيم وقال له: إن قبيلة العجمان برمّتها ستهجم عليك لأنهم سيظنّون أن شيئاً ما قد حدث لي. فأجاب فهد: دعهم يأتوا.

وبعد منتصف الليل بقليل أتى العجمان فعلاً. وكانوا في حالة نفسية عنيفة جداً لا يرتدون إلا مآزر مستعدّين للموت من أجل رئيسهم. واستيقظ فهد منزعجاً بأصوات النيران أثناء الهجوم عل معسكره، فارتدى ملابس المعركة بسرعة، وفي فورةٍ من الغضَب أمَرَ بفكِّ قيود ابن حثلين وقطع رأسه. فنُفِّذَ أمرهُ فوراً. وكان ذلك أسوأ ما يمكن أن يفعله لأن جيشه ذاته كان يحتوي على عدد كبير من رجال قبيلة العجمان الذين كان واضحاً ان ولاءهم له لم يكن مؤكداً. وحين علموا بأن ابن حثلين قد قُتِل غدراً انضمّوا فوراً إلى المهاجمين وقضوا على بقية جيش فهد. أما فهد نفسه فقد أسرع على حصانه وأمر خادمه بأن يفك رباطه. لكن الخادم العجمي، بدلاً من إطاعة أمره، التفت إليه وأطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلاً، ونتيجة لهذه المعركة المروّعة وجد الملك أن رجال قبيلة العجمان كلهم تقريباً قد أصبحوا في حالة ثورة علنية ضدّه، وأنه لم تكن لديه في تلك المنطقة قوات تستطيع السيطرة عليهم.

ولم يمضِ وقت طويل حتى وردت إلى جلالته أخبار أشدّ سوءاً من تلك الحادثة. ذلك أن فيصلاً الدويش لم يمت من جراحه كما توقع كل إنسان، بل شُفِيَ منها بسرعة وأصبح يحمل السلاح من جديد متزعّماً قبيلته في غارات على القبائل المؤيِّدة للملك. وقد انضم إليه كثير من قبيلة عتيبة برئاسة الدهينة، الذي كان قد هرب بعد معركة السبلة إلى العراق، والتجأ إلى ملكها فيصل. وفي طريق عودته إلى نجد قابل الدويش واتفقا على أن يقود عتيبة في ثورة جديدة ضد ابن سعود. وكانت عتيبة تسيطر على كل المنطقة الواقعة بين مكة والرياض. ومن هنا فقد كان الملك في حقيقة الأمر معزولاً عزلاً تاماً في الحجاز دون أن تكون لديه وسيلة للعودة إلى عاصمته. وكان الوضع في غاية الخطورة. كانت هناك مناطق واسعة من البلاد معادية للملك حينذاك. وكانت القبائل والمدن الموالية له لا تملك القدرة على الدخول في معركة ضد المتمردين. ولا ترغب في ذلك لكن جلالته لم يكن الرجل الذي تقهره أو تفت في عضده مصاعب من هذا النوع. كان حينذاك قد طوّر علاقاته الودية مع الحكومة البريطانية فاتّفق معها على أن تبيع إليه أربعة آلاف بندقية وتشحنها من مدارس إلى البحرين ليزود بها القبائل القليلة التي ظلّت مؤيدة له في الأحساء. وكان السعر الذي طلبته بريطانيا عالياً جداً لدرجة جعلت الملك يرتاب في الأمر ويقول: أستطيع أن أحصل على كل الأسلحة الضرورية في جدة وأحملها منها إلى المنطقة الشرقية على اربعمائة بعير دون زيادة في التكاليف. وعلى أية حال فقد كان من المستحيل لمثل تلك الحمولة أن تمرّ بسلام عبر مناطق كل القبائل الثائرة.

وقد قرَّر الملك أن يجمع كل ما لديه من قوّة ويحاول أن يشقّ طريقه إلى الرياض عبر مناطق القبائل الثائرة. ذلك أن جلالته لم يفقد أبداً ثقته أو توازنه. وكان – كما كان دائماً – رابط الجأش واثقاً بالنصر. وكانت له، بطبيعة الحال، مجالات من التفوُّق على أعدائه. لقد أمضى ثلاثين سنة مليئة بالحروب الناجحة، ولذا فقد كان يعرف بانه لا يوجد من يضاهيه خِبرةً بوصفه قائداً صحراوياً. وكان يحظى بتأييد بريطانيا مما يتيح له الحصول على أسلحة أفضل من تلك التي كان يحصل عليها المتمرّدون. وكانت لديه الأموال التي يستطيع أن يشتري بها ولاء بعض القبائل التي لم تكن لتُؤيّدَه بدون هِباته. وبالإضافة إلى ذلك كلّه كانت لديه وسائل اتصال لاسلكية في جميع المدن الكبرى من المملكة، وذلك ما يمكنّه من الحصول على آخر المعلومات فيوجّه قوّاته بسرعة إلى أي مكان يحتاج أن يوجّهها إليه. وكانت قوّات المتمردين مفتقرة على كل هذه التسهيلات غير عالمة بما كان يجري خارج مناطقها، عاجزة عن التعاون فيما بينها تعاوناً فعّالاً.

وبينما كان جلالته يواصل مسيرته الشاقّة عبر الصحراء من مكة على الرياض جمع قوّة كبيرة من رجال القبائل المؤيدة له، ومن الجنود غير النظاميين وأمدّهم بالإبل والأسلحة والمُؤن. وكان الملك وحاشيته يركبون سيارات بينما كان يصحبهم عدد كبير من الرجال على ظهور الإبل. وكان معه رجال ديوانه كالعادة. ولم نواجه أيّة مشاكل جدّية حتى وصلنا على عفيف الواقعة في منتصف الطريق بين مكة والرياض. وكانت معقلاً لعتيبة، ولذلك اقتربنا منها بحذر. ولم يقم أحد بمهاجمتنا، ولكن تلك القبيلة لوّثت البئر بالطريقة التقليدية الفعّالة.

وهي إلقاء جثتي رجل وحمار ميتين فيها. فأمر جلالته ابنه محمداً وجماعة من ثلاثمائة أو أربعمائة رجل أن ينظفوا البئر. وانتظرنا ثلاثة أيام حتى اعتقد بأن الماء قد أصبح صالحاً للشرب. ومع ذلك فإن عدداً كبيراً ممن شربوا منه قد أصيبوا بإسهال شديد. فبذل طبيب الملك الخاص جُهدَاً بمعالجتهم منه بالحُقَن. لكن من سوء الحظ أن أولئك المحاربين الأشدّاء لم يكونوا معتادين على التطبيب من أي نوع. ولذا كانت الحُقَن مما زاد من انزعاجهم.

وكان في طريقنا من عفيف إلى الرياض ممرّ جبلي ممتاز لنصب الكمائن بحيث يمكن أن يوقِف قليل من الرجال المهَرَة المتحصّنين فيه تقدُّم جيش كامل. وكان جلالته يعتقد بأن رجال قبيلة عتيبة الموجودين في عفيف سوف يرصدون له في ذلك الممرّ. ولذلك قر أن يستدير من حوله ويتجه إلى القاعية التي تبعد عن ذلك المكان حوالي خمسين ومائة ميل شمالاً بشرق. وكانت القاعية، أيضاً، من الأماكن التي تسكنها عتيبة، فأرسل الملك وفداً إلى هناك ليطلب من جميع رجالها القادرين على القتال أن يغادروها. ولم يسمح بالبقاء فيها إلا للنساء والأطفال وكبار السن. وقد وصل الملك إلى القاعية بالسيارة، وبقي هناك أربعة أيام منتظراً وصول المسافرين معه على ظهور الإبل ومتيحاً الفرصة لهم ليستريحوا بعض الوقت في ذلك المكان. ثم سرنا شمالاً إلى الدوادمي. وكان سيرنا بطيئا ومتعباً لأن السيارات غرزت في وادي الرشاء، وكان إخراجها من الرمل أمراً عسيراً. وقد قابل الملك في الدوادمي رؤساء الروقة من قبيلة عتيبة الذين كانوا يسكنون المنطقة ويؤيدون جلالته. وكان على علم بان أولئك الرؤساء، رغم موالاتهم له. كانوا يؤوون أفراداً من بني عمومتهم وأقاربهم الذين انضموا إلى المتمردين. ولم يلبث أن أخبر الرؤساء بأنه غير راضٍ عن إعطائهم حماية لأولئك الأفراد، وأن حمايتهم لهم يجب أن تنتهي. وبعد ذلك الاجتماع واصل سيره إلى الرياض دون أن يتعرّض أحد سبيله طيلة سفره.

وخلال الأسابيع القليلة التالية أصبح الوضع أسوأ مما كان. صحيح أن الرياض لم تقع تحت حصار، لكنها كانت مثل جزيرة في بحر من الثورة. وكانت مغمورة برجال قبائل من غير المؤكد معرفة ولاءاتهم. وكانت محاطة بقبائل معادية حتى أصبح من الخطر أن يغامر المرء بالابتعاد عنها. ولم يكن في نيّة ابن سعود أن يدع الأمور تبقى كما هي عليه. وكان أول إجراء مُضاد اتّخذه أن أمَرَ ابنه سعوداً أن يذهب إلى الأحساء ليستولي الأمور فيها بدلاً من عبد الله بن جلوي الذي مرض مرضاً شديداً بعد موت ابنه فهد. وسار سعود ورجاله فوراً إلى المنطقة الشرقية بالسيارات. ومن سوء الحظ أن العجمان كانوا يتوقعون أن يقوم ابن سعود بمثل هذا الإجراء فكمنوا لابنه في رمال الدهناء الناعمة التي تبعد عن الرياض حوالي ستين ميلاً.

ولعلّ الدهناء من أعظم المظاهر الجغرافية في جزيرة العرب فهي تمتّد في شريط ضيق مستمر من صحراء النفود في الشمال حتى الربع الخالي في الجنوب. ولا يوجد فيها موضع أعرض من أربعين ميلاً. ومن هنا فإنها تشكّل نهراً بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة؛ إذ تلقي الرياح فيها باستمرار رمالاً دقيقة كالبودرة حتى تصل إلى بحر الربع الخالي الواسع. ولهذا السبب فإني أسمي الدهناء دائماً “نهر الرمال” وهو وصف أستطيع أن أدّعي بأني صغته شخصياً لأني لا أعلم مؤرخاً او جغرافياً سبقني إلى استعماله. وهي تشبه النهر بمعنى آخر أيضاً. فالمسافر يصل إليها فجأة، والانتقال إلى أرضها الرخوة من الأرض الصلبة المحيطة بها يتمّ دون مقدمات مثلما يحدث الانتقال من شاطئ النهر إلى النهر ذاته. والرمل قرب سطحها غالباً ما يكون رطباً، لكن مهما تعمقّتَ في الحفر فلن تجد ماء على الإطلاق. ولهذا السبب كثيراً ما وُصِف الرجل الذي لا يفي بوعده بأنه كالدهناء.

وكثبان رمل الدهناء المتنقّلة تجعلها مكاناً ممتازاً للكمائن. وقد نجح العجمان في مباغتة الأمير سعود وقتلوا عدداً من أتباعه وأسروا آخرين. ولم يكن استعمال السيارات في هذه المرة ذا نفع كبير. ذلك أن أكثرها غرزت في الرمال، وصار من السهل على المتمردين أن يستولوا عليها ويحرقوها. ومن حسن الحظ أن الأمير سعوداً كان قد استعار سيارة أبيه المرسيدس القوية التي كان تصميمها ملائماً للأراضي الرملية. واستطاع بتلك السيارة أن ينجو من الأسر ويمضي قدماً في طريقه إلى الأحساء. وقد أخذ رجاله الذين أُسِرُوا على الكويت التي كانت، حينئذٍ، تقف موقفاً حيادياً. ثم أطلق سراحهم بعد ذلك وعادوا إلى المملكة. ومن الصُدَف أن أخي كان مسافراً على الهفوف مع إحدى القوافل الصغيرة حينما كان الأمير في طريقه إلى هناك، وقد مرّ الأمير ورجاله بتلك القافلة قبل يوم واحد من وقوعهم في كمين العجمان. وفي اليوم التالي كان أخي ومن معه أول من وصل إلى مكان الحادثة. وكانت جثث خدم الأمير لا تزال مُلقاة على الأرض. أما السيارات فقد نُزِعَت منها بعض الأشياء كالمصابيح ونحوها قبل أن تُشعَل النار فيها. وقد قابل أخي الأمير سعوداً في الهفوف وأخبره بما رأى، فلامه الأمير على عدم قيامه بدفن جثث القتلى. ومن سوء الحظ أن قيامه بذلك كان مستحيلاً؛ إذ لم تكن لديه الأدوات اللازمة لحفر القبور.

وبعد أن أرسل الملك الأمير سعوداً ليتولى الأمور في المنطقة الشرقية التفت إلى الجهات الغربية فأرسل قوة كبيرة من البادية والحاضرة بقيادة الأمير خالد بن محمد بن سعود لمهاجمة جناح عتيبة الشرقي. وأعطى، في نفس الوقت، تعليمات باللاسلكي إلى ابنه فيصل في الحجاز ليقوم بمهاجمتها من الغرب. وبذلك وضع عتيبة أمام هجوم منسّق من جهتين. ورغم أن تلك القبيلة حاربت بشجاعة فقد كان أغلب أقسامها مبعثراً في جماعاتٍ صغيرة استطاعت قوّات الملك أن تكتسحها واحدة بعد أخرى. وفي غضون شهرين فقط تم إخضاع القبيلة وأصبحت الطريق بين مكة والرياض مفتوحة من جديد.

وكان أمراً جيداً أن بعث الملك ابنه سعوداً لتقوية دفاع الهفوف. فقد كان فيصل الدويش المخيف يلعب دوره في الثورة هناك. وكان مصمّماً على أن يحتلّ الهفوف بالقوات الكبيرة التي انضوَت تحت قيادته من قبيلتيّ مطير والعجمان. لكن كان عليه قبل أن يقوم بذلك الأمر، أن يُخضِع قبيلة العوازم الصغيرة الموجودة في المنطقة والموالية للملك. ولم يكن العوازم من القبائل المشهورة في الحروب.. غير أنهم كانوا في تلك المناسبة يحاربون دفاعاً عن بيوتهم وقُراهم، وكانوا قد حصلوا على إمدادات وفيرة من الأسلحة والذخيرة التي أرسلها البريطانيون من مدارس. ولذلك لم يستطع الدويش أن يهزمهم. وكان أن أضطر إلى أن ينسحب ذليلاً من منطقة الهفوف كلّها.

وقبل أن يبدأ الدويش عملياته في الأحساء بعث ابنه عبد العزيز مع فيصل بن شبلان للقيام بغزوات كبيرة في شمال البلاد. وكانت لديهما أوامر بمهاجمة كل القبائل الموالية للملك. وقد نجحت تلك الغزوات واستطاع المتمردون أن يُحدِثوا أضراراً بالغة ودماراً شديداً في المنطقة، كما استولوا على أعداد كبيرة من الإبل. ولكن القائدين اختلفا حول طريق عودتهما. فقد رأى عبد العزيز الدويش ان يتّجها إلى أم أرضمة. لكن ابن شبلان كان قد سمع بأن فرقة كبيرة من شمّر موالية للملك قد اتّجهت إلى هناك. وقد رأى أنه من الخطر المجازفة بالاشتباك معها، واقترح طريقاً أخرى للعودة. وكانت سرعة الغضب لدى عبد العزيز الدويش واضحة وضوح حمرة لحيته. وقد استشاط غضباً واتّهم ابن شبلان بالجبن، وأصرّ على الذهاب إلى أم رضمة. وهنا غضب ابن شملان، الرجل العملاق، غضباً شديداً. وبعد مجادلة حادّة انطلق مع خمسة وعشرين ومائة رجل من أتباعه عبر حدود العراق إلى موارد مياه السلمان. ومن هناك اتّجه جنوباً وعاد إلى الأرطاوية بسلام.

أما عبد العزيز الدويش فقد واصل سيره إلى أم رضمه التي كان السفر إليها يستغرق ستة أو سبعة أيام. وكان ذلك في منتصف فصل الصيف، ولم تكن هناك موارد ماء قبلها. وحين اقترب منها كان رجاله قد أوشكوا على الموت ظمأ، وكانت إبلهم منهكة، وقد أدخَلوا قِطَعا من القماش في أدبارها. وكان ذلك طريقة تقليدية لمنع دخول الهواء إلى معدة الحيوان وهي فارغة لأن دخوله إليها يعتبر خطراً على حياته. وكما توقع ابن شبلان كانت تنتظرهم في أم أرضمه قوة كبيرة من شمّر جيدة التسليح بقيادة نداء بن نهير. وقد تجمّعت تلك القوة في مواقع دفاعية حول آبار الماء. وكان نداء قد بعث إلى عبد العزيز بن مساعد، أمير حائل، يطلب منه إرسال نجدات إليه، لكن هذه النجدات لم تصل إلا بعد نهاية المعركة. ورغم أن عبد العزيز الدويش وجماعته كانوا أقل عدداً من القوة الشمّرية بكثير فإنه لم يكن أمامهم إلا مهاجمتها. ذلك أن مواصلة السير من دون ماء كانت ستؤدي إلى موته وموت رجاله معه. وكانت المواجهة نكبة للإخوان. فقد قام الدويش بهجومه ومعه سبعمائة رجل من أتباعه، واستطاعوا أن يقتلوا عدداً كبيراً من شمّر، ومن بينهم ابن نهير نفسه. لكن القتال لم ينته إلا وقد قُتِل الدويش وخمسون وأربعمائة رجل من أتباعه. أما بقيّتهم، الذين لم يكونوا قادرين على مواصلة القتال من شدة التعب، فقد أُسِرُوا. وبعد انتهاء المعركة بقليل وصل عبد العزيز بن مساعد إلى أم أرضمة، وقتل الأسرى في مكانهم. ولقد جازف ابن مساعد كثيراً بإعدامهِ هؤلاء دون أن يطلب إذناً من الملك بذلك. على أن جلالته في تلك الظروف وافق على تصرُّف ابن مساعد؛ إذ شعر بأن الوقت قد حان ليجعل من المتمرّدين درساً لأولئك الذين كانوا يعرقلون بناء مملكته.

وفي غضون ذلك تحرّك فيصل الدويش بسرعة وسرّية إلى نجد بعد أن فشل في تحقيق أي انتصار في الأحساء. وكان يأمل أن يشنّ هجوماً مباغتاً على قوات الملك التي كانت معسكِرة في القاعية، المورد القريب من المجمعة. فبعد أن عبر الدهناء نجح في شقّ طريقه إلى داخل نجد دون أن يعلم به أحد. وقبل موعد الهجوم بيوم واحد قام رجاله باستعراض حربي كان من التقاليد أن يقام به ما أمكن قبل كل معركة. وبينما كان الاستعراض يجري وصل إلى الدويش رسول يخبره بقتل ابنه في أم رضمة. فحزن ذلك المحارب القديم حزناً شديداً، وأمر خدمه بأن يفرغوا قِرَب الماء التي مع رجاله. وكان ذلك الإجراء استراتيجية مشابهة لتلك التي قام بها القائد المشهور طارق بن زياد حين أحرق السفن، وصاح برجاله: “العدوّ أمامكم والبحر من ورائكم”. وفي هذه الحالة كانت الصحراء محلّ البحر، ولكن النتيجة كانت واحدة. فعندما ذهب رجال الدويش إلى المعركة في اليوم التالي لم يكن لهم بديل من الاستبسال في هجومهم على مورد الماء. وكان رجال الملك أقل بكثير من جيش الإخوان، كما أنّهم أُخِذوا على حين غرّة، ولذلك كان الهجوم انتصاراً تامّاً للإخوان. وقد فرّ من لم يُقتَل من رجال القبائل الموالين إلى الرياض. وفي طريقهم إليها قابلوا قافلة من الشاحنات محمّلة بأسلحة وذخائر متّجهة إلى القاعية، ومن سوء الحظ أن تلك القافلة قد أُرسِلَت متأخرة، فلم تصل إلى المورد المذكور قبل أن يهاجمه الإخوان. بل إنه من المحتمل جداً ان القافلة لو وصلت قبل الهجوم فإنها لن تفيد كثيراً لأن الموالين للملك هناك لن يكونوا قادرين على مجابهة مطير.

وعبر الدويش الدهناء مزهوَّاً بنجاحه لكي يعود إلى شمال الأحساء. وبعد حوالي شهر اتّجه ابن سعود شمالاً ليتعقبه. وكما هي العادة ذهب مع الملك رجال ديوانه وأنا من ضمنهم. وحين اقتربنا من عبور الدهناء كان الجو قد أصبح محتملاً لأن الشتاء قد اقترب. ولكن الماء كان دائماً نادراً. وقد اتّجهنا إلى مياه اللصافة واللهابة التي كان موقعها ممتازاً من الناحية الاستراتيجية، والتي كانت الطائرات البريطانية قد قصفتها في إحدى هجماتها على الإخوان قبل ذلك بقليل. وما زلت أذكر ذلك المساء حينما عسكرنا في الدهناء ونحن نبعد أميالاً عديدة من أقرب ماء. كانت الشمس تقترب من الغروب وكان الملك ينتظر غروبها ليؤدي صلاة المغرب وفجأة أتى إليه أحد رجال استطلاعه وهمس في أذنه شيئاً ما. ورغم إحاطته بما أُخبِرَ به فإنه لم يُبدِ أيّة علامة من علامات التأثر. واختفت الشمس ببطء وراء الأُفُق مشكِّلَةً صورة أخّاذة في السماء ومُجسِّدة ظلال الكثبان الرملية من حولنا. وفرش جلالته سُجّادة الصلاة واتّجه نحو مكة وقسماته هادئة، ولكنّها مليئة بالأفكار. وقد أحسست بأن أمراً في غاية الأهمية كان يشغل باله. غير أنه كان من المستحيل دائماً أن يعرف أي إنسان ما يفكر به جلالته. وبعد الصلاة عاد الملك إلى سجّادة كانت مفروشة له على تلّ صغير من الرمل. واستدعى بعض خدمه وجنوده. وطلب من هؤلاء بوضوح وسريّة أن يعطوا الأوامر التي كانت تتشكل في ذهنه إلى الجماعات القبلية في جيشه. وقد أُخبِرَت كل جماعة بالدِّقة ما كانت تحتاج إلى معرفته دون زيادة. وكان هذا الجمع بين الحزم والسريّة هو الذي ميّز جلالته قائداً فذّاً يمنح كل أتباعه الثقة التّامة بقيادته.

ولقد تمكّنتُ بعد ذلك بقليل من أن أعرف ذلك الخبَر الذي أسرّه إلى الملك رجل استطلاعاته. ذلك أننا حين وصلنا إلى اللصافة وجدناها قد لُوِّثَت بالطريقة المعتادة، وهي إلقاء رجل وحمار ميتين فيها. ومن الواضح أن جلالته كان قد علم بذلك لأنه سبق أن أرسل أمامنا قوة مكونة من خمسمائة رجل لنزح ماء الآبار حتى يقضى على تلوّثها. وقد مرّ يومان قبل أن تجمّ هذه الآبار. ومع ذلك فقد اتضح أن ماءها لم يكن، حينذاك، قد أصبح صالحاً للشرب. ورغم مضيّ خمسة أيام علينا دون أن نعثر على ماء فإنه لم يكن لنا خيار سوى أن نواصل سيرتنا. وأخيراً وجدنا ماءً كثيراً في الوفراء، ولكنّه أُجاج لا يصلح إلا للإبل. وقد خيّمنا تلك الليلة في مكان غير بعيد من ذلك يسمّى معرج السوبان. وكان معنا حوالي خمسة عشر ألف بعير. فأمر الملك أن تُرسَل إلى الوفراء ثلاث دُفعات، كل دُفعة خمسة آلاف بعير. وكان هذا الإجراء يمثّل عناية جلالته بدقائق الأمور، كما كان ضماناً بعدم إتاحة الفرصة للعدو ليشنّ هُجُوماً مباغتاً ويستولي على الإبل كلها وهي على المورد.

وتختلط رمال معرج السوبان بملايين الأصداف الصغيرة مما يشير إلى أن المنطقة كانت مغمورة بمياه البحر في الزمن القديم رغم أنها تبعد عن البحر الآن ما لا يقل عن ستين ميلاً. وعلى أية حال فقد كانت ملاحظة ذلك أقلّ همومنا لأن ظمأنا أصبح، حينذاك، مشكلة حقيقية. وقد توقفنا عن شرب الماء كُلّيةً واكتفينا بشرب كمّيات قليلة من الشاي والقهوة. وحينما حلّ الظلام تلك الليلة كانت أجسامنا المتعبة قد بدأت تضمُر في هواء الصحراء البارد، وكانت أفواهنا جافة حتى صارت أرياقنا تشبه الصمغ. ولم نكن، نحن رجال الديوان، نفتقد الماء فحسب بل لم يكن معنا طعام أيضاً. وقد طلبنا من رئيسنا أن يبحث لنا عن حلّ. فقام وتجوّل في المخيم حتى وجد أن الأمير محمد بن عبد العزيز يستطيع أن يعطينا شيئاً نأكله. ودُعِينا على خيمته حيث وجدنا صحناً كبيراً من الرز واللحم في انتظارنا. وكان اللحم طرياً جداً رغم أنّي لم أتذوق طعمه لأعرفه لأني كنت أشدّ جوعاً من أن أهتمّ بذلك. وبعد أن تناولت بضع لقيمات سألني الأمير محمد بابتسامة عريضة عما إذا كنت أعرف ما أكلت. وحين قلت إنني لا أعرفه أخبرني أنه قطة وحشية. وكنت أفضِّل أنني لم أعرف ذلك، ولكنّي كنتُ مسروراً بالطعام على أية حال. وإذا كان أكل مثل هذا اللحم محرّماً في الأوقات العادية فإنه مباح في وقت الاضطرار والشدّة. وفي الواقع أن البدو يأكلون أحياناً القطط الوحشية حينما لا يجدون سواها.

وكان فقدان الماء قد أصبح، حينذاك، أمراً في غاية الخطورة. فإذا لم نعثر على شيء منه في أقرب وقت فإننا سنواجه خطر الموت ظمأ. وكان على قواتنا أن تنقسم إلى أربعة أقسام على الأقل بحثاً عن الماء. وكان ذلك سيجعلها غير فعّالة بصفتها وحدة عسكرية لأيام عديدة. لكن حين ظهر فجر اليوم التالي أُجِيبَ دُعاؤنا بأصوات رعد غيوم مفاجئة أيقظتنا من نومنا القلق. ونزل الغيث حتى امتلأ الوادي القريب منا بغدران الماء، وصار الجوّ محملاً برائحة عطرية منعشة، وارتفعت معنويات كل فرد منا. وبما أن جلالته قد قرر أن نبقى في ذلك المكان أياماً، ولم يكن لدينا ما نعمله فقد رأينا أن نتبارى في الرماية فوق تلّ قريب. فأقام أحد الكُتّاب هدفاً صغيراً من الورق وبدأنا برمايته. وفجأة حدث ما أرعبنا؛ إذ انهال الرصاص من معسكرنا إلى المكان الذي كنا فيه وأخذ يصطدم بالصخور القريبة منا. فانتابنا ذُعر شديد، وعُدنا إلى المعسكر فوراً. وهناك التقينا بخدم الأمير محمد الذين طلبوا منا أن نأتي حالاً إلى خيمته. فناولَنا سموّه الشاي، وأخبرنا بهدوء أنه هو الذي كان يطلق علينا النار، وأوضح لنا أن الملك لم يرض بتبذير الذخيرة في مباراة للرماية، ورأى أن إطلاق النار في اتجاهنا سيكون أسلوباً ملائماً للتعبير عن امتعاضه من تصرفنا. فقلنا للأمير بنوع من الاحتجاج بأن الرصاص ربما أصاب واحداً منا. فأجاب بأنه كان يطلق النار دون أن يصوبها إلينا، وأن لديه ثقة في إجادته للرماية حتى وإن كنّا لا نشاركه تلك الثقة. وقد سألته: ماذا سيحدث لو أن أحدنا تحرك من مكانه وأنت تطلق النار؟ فأجاب بابتسامة مطمئنة: ستكون الرصاصة حينئذٍ قد انطلقت.

وبعد يومين طوينا خيامنا واتّجهنا شمالاً. وبعد مغادرتنا بقليل بلغتنا أخبار مهمة تفيد بأن الدويش، الذي كنّا ننتظر بأعصاب متوترة مواجهته في أية لحظة، قد هُزِمَ هزيمة ساحقة. وكان قد عسكر في أطراف وادي حفر الباطن قرب حدود الكويت. وهناك هاجمته فرقة من قبيلة حرب بقيادة عبد المحسن الفرم تساعدها قبيلة الظفير بقيادة عجمي بن سويط. وكان الفرم قد استطاع أن يباغت الإخوان بهجومه؛ إذ قام به حينما كانوا مستغرقين في النوم، وكان معسكرهم متلفّعاً بضباب الفجر. وقد أُحرِقَت خيام الدويش وغُنِمَت مُؤنُه وإبله، كما قُتِل أتباعه أو شُتِّتُوا. وكانت تلك الحادثة بمثابة النهاية للمحارب القديم؛ إذ ألقى بشجاعته في مهب الريح، وهرب من المعسكر على ظهر بعير كبير السنّ لم تعتبره قبيلة حرب جديراً بان يُؤخَذ. ولم يكن أي فرد منا يعلم بأن الفرم كان عازماً على مهاجمة الدويش. ولكني واثق بأن الملك قد دبّر ذلك الأمر. وهذا مثال جيد على الطريقة السريّة التي يصمّم بها جلالته الخطط وينفذها.

وبعد معركة حفر الباطن لم تبقَ لدى الدويش قدرة على الحرب. فهرب مع زوجاته وأسرته وعدد قليل من أتباعه عبر الحدود إلى الكويت، والتجأ إلى القنصل البريطاني الكولونيل ديكسون. وكان هذا متردداً أول الأمر في مساعدته إذ كان يعرف أن مساعدته ستغضب ابن سعود. لكن حينما خلع الدويش عمامته ووضعها على رأس ديكسون أشفق عليه ووافق على إيوائه. وكان ما قام به الدويش عادة قديمة ترمز إلى انعدام القدرة ورجاء الحماية. وقد اعتنت زوجة ديكسون عناية شخصية بنساء الدويش اللواتي كُنّ في حالة يرثى لها من الجوع والبؤس وقد حدث ما توقّعه ديكسون. ذلك أن ابن سعود غضب غضباً شديداً حينما علم بأن البريطانيين قد آووا عدوّه القديم. ولا بد أن الملك قد غضب، أيضاً، على الكويتيين أنفسهم لأنه قد وجد في معسكر الدويش، بعد الاستيلاء عليه، رسائل تبرهن على أن المتمرّدين كانوا يحصلون على مؤن وذخائر من الكويت. فبعث رُسُلاً إلى الكويت والعراق واتّفق مع البريطانيين بأن يلتقي مع ممثلهم سريعاً في الرقعي. وهو مكان اجتماع ومورد ماء شهير يقع عند نقطة تلاقي الحدود الكويتية العراقية السعودية.

ولم تكن مسيرتنا إلى الرقعي بدون أحداث. ففي الطريق إليه شاهدَت طلائعنا جماعة من قبيلة مطير كان يقودها ابن عشوان. الذي لم يكن اسمه غريباً عليّ. فقد حاول هو وأتباعه سنة 1928م أن يشنّوا هجوماً على الكويت، لكن صدّهم عنها الشيخ علي الصباح وعدد قليل من رفاقه كانوا على سياراتهم. وفي أثناء تعقبهم غرزت بعض السيارات في الرمل فأحاط بهم البدو، وخاضوا معهم معركة ضارية قتل فيها الشيخ علي نفسه. فأرسل الشيخ عبد الله النفيسي، وكيل الملك في الكويت، برقية إلى جلالته يخبره فيها بتلك الحادثة. ولمّا كانت البرقيّة قد وردت بحروف إنجليزية فقد طلب مني ترجمتها.

وكان من المعروف لنا أثناء مسيرتنا إلى الرفعي بأن جماعة ابن عشوان قد انفصلت عن الدويش واتّجهت إلى داخل نجد. ومع أن التمرّد كان، حينذاك، قد قُضِي عليه بدرجة كبيرة فإنّه لم تكن هناك اتفاقية أو معاهدة سلام بين جلالته وبين هذه الفرقة من مطير، ولم تكن لديه أيّة وسيلة لمعرفة نواياها. ولذلك فإنّه أمر بمهاجمتها. وقد تقدّم الأمير محمد طالباً أن يقود الهجوم عليها، لكن الملك كان حريصاً على سلامته فرفض طلبه. وكان محمد مصمماً فأخرج مسدسه وصوبه إلى رأسه قائلاً: “إمّا أن تدعني أهاجمه وإلا فإني سأقتل نفسي”. فأذن له الملك وقاد الهجوم الذي كان ناجحاً كل النجاح. فقد هُزِمَت تلك الفرقة، واضطّر أفرادها إلى ترك نسائهم وأطفالهم والكثير من إبلهم. وقد قُتِل زعيمهم، ابن عشوان، لكنّ أخاه وكثيراً ممن كانوا معه تمكّنوا من الهروب. وكان من بين النساء اللواتي أُحضِرنَ إلى معسكر الملك أم ابن عشوان التي كان قد هدّها الحزن على موت ابنها. وقد سألها الملك لماذا التحق ابنها بالدويش، فخرّت على الأرض تبكي وتنوح وتدعو على الدويش. ثم قالت: إنه قد أتى إلى مخيّمنا والتفّ كالأفعى على ابني، واستطاع بالأكاذيب والوعود الجوفاء أن يقنعه بالانضمام إلى التمرّد. وقد أكّد الملك على رجاله بأن يعاملوا الأسرى من الأطفال والنساء بأقصى ما يمكن من الرعاية. وحالما وصلنا إلى مكان يمكن أن يكونوا فيه آمنين أُطلِقَ سراح الجميع.

وعندما وصلنا إلى الرقعي اتّضح أن البريطانيين قد قرّروا إعطاء الدويش حق اللجوء السياسي، كما آووا زعيمين من زعماء المتمرّدين وهما ابن لامي من قبيلة مطير ونايف بن حثلين المسمّى أبا الكلاب من العجمان. وقد أدهش ذلك ابن سعود الذي لم يرَ أيّة فائدة يمكن أن يجنيها البريطانيون من إيواء أعدائه. وكان ممثّل البريطانيين في لقاء سيد الرقعي السيد جون جلوب. المعروف لدى العرب بجلوب باشا. وكان، حينذاك، مفتِّش الصحراء العراقية الجنوبية، ثم أصبح فيما بعد قائداً للجيش العربي الأردني. المشهور لدى البريطانيين باسم الفيلق العربي. وقد بقي الملك مخيِّماً على بُعد خمسة أميال من الرقعي ذاته. ثم أرسل يوسف ياسين، مدير القسم السياسي في الديوان. ليتفاوض مع جلوب باشا حول الدويش والزعيمين الآخرين. وأرسلني معه لأقوم بالترجمة بينهما. وفي لقائنا الأول مع جلوب باشا سلّمنا عليه، وتكلمت معه بالإنجليزية فردّ عليّ فوراً بلغة عربية لا غبار عليها. وقد سألناه عن الدويش فاتضح من إجابته أنه لا يستطيع إعطاءنا جواباً شافياً عنه. ومع أنه كان لَبِقاً إلى درجة كبيرة فإنّه لم يتعهّد إلا بإرسال برقيّة مستعجَلة إلى لندن مؤكِداً بأن هذا الموضوع سيُعطَى اهتماماً فورياً. وبينما كنا في الرقعي وصل إليه عدد من بدو العراق فذهب جلوب باشا لزيارتهم. ولقد أعجبت كثيراً بما استطاع أن يكوّنه من علاقة وثيقة مع رجال القبائل. فقد كان عارفاً تماماً بعاداتهم وحركاتهم ولهجاتهم، وكان ينضمّ بسهولة إلى أحاديثهم ويشرب معهم القهوة حسب الطريقة المتّبعة في الصحراء. وحين سألناه عما كان يريده أولئك البدو قال: “هؤلاء الأغبياء يقولون إنهم يريدون أن ينضووا تحت راية الملك”..

واجتمعنا في اليوم التالي مع جلوب باشا، فاقترح أن يسافر جلالته إلى خباري وضحا حيث يمكن أن يُجرى مزيداً من المفاوضات مع البريطانيين والعراقيين لا تقتصر على الزعماء المتمرّدين فقط وإنما تشمل عدداً من قضايا الخلاف الآخر بين المملكة العربية السعودية وجاراتها، خاصة المشكلة المتعلقة بنقاط الحدود العراقية. وقد وافق جلالته على هذا الاقتراح فانطلقا نحو الجنوب الشرقي في رحلة طويلة على خباري وضحا. وكانت الأرض التي سنعبرها صعبة جداً. وقد مررنا بمنطقة تسمى الفرعاء لأنها خالية من أي نوع من النباتات أو الحشائش. وكانت مغطاة برمال ناعمة رمادية اللون تشبه الطين صعبة العبور بالنسبة للإبل. وكان لا يوجد فيها بدو على الإطلاق؛ إذ لم يكن فيها مراعٍ لإبلهم ولا حطب لنيران طبخهم. وبعد أن عبرناها بصعوبة استرحنا بعضاً من الوقت في وادي حفر الباطن. وقد كان هذا الوادي امتداداً لوادي الرمّة الذي يبدأ من عند المدينة المنورة ويمرّ بين بريدة وعنيزة في القصيم، ثم يعبر الدهناء حتى يصل إلى حفر الباطن والرقعي، ثم يتجه شمالاً بشرق فيمرّ بالزبير ووادي السبية قرب البصرة حتى ينتهي بالخليج العربي. ويسمّى وادي الرمّة، أيضاً، وادي الجثث لأنه يمتلئ بسرعة مذهلة زمن المطر الغزير فيغرق في تياره القوي كثير من الناس والخيل والإبل والأغنام. وكانت تلك الجثث، قبل فتح قناة السويس، مصدر غذاء للأسود والنمور التي كانت تأتي من أفريقيا ثم تتجه إلى العراق.

وكنا جميعاً متعبين من السفر. وكان كل جزء في جسدي يؤلمني. وما زلت أذكر أني حين نزلت من بعيري ووقعت على الأرض كنت مرهقاً لدرجة أني أحسست بأن الأرض ذاتها كانت تدور من تحتي. قبل أن نواصل السير مرة أخرى سألني جلالته كم تبعد خباري وضحا. فقال دليلنا البدوي إنها حوالي ثلاثين ميلاً، وكانت معي خريطة سبق أن رسمها فيلبي في إحدى رحلاته الاستكشافية. وقد ظهر فيها أن المسافة حوالي ثمانية عشر ميلاً فقط. لكن اتضح فيما بعد أن الدليل كان أكثر دقة من الخريطة؛ إذ كانت المسافة لا تقل عن خمسة وثلاثين ميلاً. ولم نصل إلى خباري وضحا إلا بعد منتصف الليل بوقت غير قصير. وكنا، حينذاك، منهكين غاية الإرباك.

ولم يُسمَح لي إلا بوقت قصير أستعيد فيه قوتي. ففي الصباح الباكر بدأت المفاوضات مع البريطانيين، وكان عليّ أن أقوم بالترجمة. وقد أرسل البريطانيون ممثلهم السياسي العام في منطقة الخليج، الكولونيل بيسكو، على رأس وفدهم المفاوض. وكان معه الكولونيل ديكسون وبعض قادة القوة الجوية البريطانية في العراق. أمّا الجانب السعودي فكان برئاسة الملك نفسه واشتراك كل من مستشاريه يوسف ياسين وحافظ وهبه، الذي عُيِّنَ فيما بعد سفيراً في لندن. وقبل أن تبدأ المفاوضات تبودلت عبارات مجاملة أثنى فيها البريطانيون على جلالته، فأجابهم بأن عبّر عن احترامه لهم وثقته بهم وبحسن نواياهم. وقد اتّضح في خلال المحادثات أن الدويش والزعيمين الآخرين كانوا محتجزين في قاعدة الشعيبة القريبة من البصرة. ولعلّه من المناسب الإشارة إلى أن الكويتيين والعراقيين لم يكونوا يملكون، حينذاك، اتخاذ أي قرار في الموضوع المطروح للنقاش لأن بلديهما كانا تحت السيطرة البريطانية. وقد أصرّ جلالته على أنّه يعتبر الدويش مجرماً يجب أن يُسَلَّم إليه ليُحاكَم وينال جزاءه. لكن البريطانيين أصرّوا بطريقة مؤدبة على اعتباره لاجئاً سياسياً، ورفضوا أن يسلّموه. ولم يكن موضوع الدويش الموضوع الوحيد الذي كان محل خلاف بين الطرفين. فقد قُتِل عدد كبير من الناس، واستُولِيَ على كثير من الإبل وغيرها في الغزوات والغزوات المضادّة التي جرت على الحدود العراقية السعودية خلال اضطرابات الإخوان. وقد اتُّفِقَ، بوجه عام وطِبقاً للعُرف العربي، على أن تُدفَع تعويضات للجانب التي كانت خسائره أكثر من الجانب الآخر. وهنا أكّد العراقيون بأن خسارتهم كانت أكثر من خسارة السعوديين. لكن يوسف ياسين كان قد أعدّ إضبارات مفصلة عن الإصابات الفادحة التي تكبّدها الإخوان أثناء الغزوات، وعن الخسائر التي مُنيت بها القبائل السعودية من جراء هجمات العراق المضادة وقصف القوة الجوية البريطانية لها.

وقد نظر العراقيون والبريطانيون إلى تلك المعلومات نظرة ارتياب، لكني أعرف أنها كانت دقيقة كل الدقة وصادقة كل الصدق. ذلك أن جلالته كان دائماً يستطيع أن يعتمد على القنوات المستمرة للمعلومات الصحيحة التي كانت تصل إليه من أجزاء مملكته لأن أيّ أمر يحدث في ناحية منها يعرف السكان المحلّيون أنه سيكون موضع اهتمام جلالته فيبعثون إليه فوراً من يحمل إليه نبأه. ولم يكن هناك أبداً نقص في المتطوعين للقيام بهذه المهمة لأن سخاء الملك نحو من يأتونه بالأخبار كان معلوماً لدى الجميع. وكان من المعلوم، أيضاً، أن جلالته يفضّل أن تكون المعلومات التي ترد إليه وافية التفاصيل إلى أقصى حد ممكن. وعلى هذا فإن رجال القبائل المحلّيين كانوا يسجّلون تفاصيل كل معركة تسجيلاً دقيقاً ويفصّلون الأحداث التي تتم لكل من الطرفين المتقاتلين. وكان وصول هؤلاء إلى الرياض مشهداً مألوفاً. فإذا كانوا يحملون أنباء خطيرة، بوجه خاص، أطلقوا النار في الهواء لجلب الانتباه. وفي أثناء تقدّمهم إلى المدينة ينتظرهم السكان لدى أبوابها ليعرفوا ما الذي حدث وما إذا كان قد تحقّق انتصار أم لا.

ولم يكن يوسف ياسين يؤمن بالفكرة البريطانية وهي أن المفاوضات ينبغي أن تجري في جوّ من المجاملات وتخفيف حدة الحقائق. فقد كان يدلي بآرائه بطريقة مباشرة شديدة الوقع، ولم يكن يبالي إن كانت تلك الطريقة تُعكِّر مزاج الطرف الآخر. وبالإضافة إلى ذلك فإن فيض المعلومات التي كانت في حوزته ومعرفته الواضحة بالظروف المحيطة بالغزوات كانا من الأمور التي أحرجت البريطانيين والعراقيين كلَّ الإحراج، خاصّة أن هذه المعلومات تتناقض تماماً مع الإحصائيات الموجودة لديهما. وبعد اليوم الأول من المحادثات أخذني الكولونيل بيسكو جانباً وسألني أن أرجو من الملك أن لا يرسل يوسف ياسين في أيّة مداولات قادمة. لكني لم أقم بنقل رسالته؛ فقد شعرت بأنه من الإهانة للملك أن يحاول البريطانيون أن يُملوا عليه من الذي ينبغي أن يكون أو لا يكون في وفده المفاوض. وبالإضافة إلى هذا فقد كنت أعرف أن يوسف ياسين كان الرجل الوحيد الذي اطّلع على كل تفاصيل الخسائر التي سبّبتها الهجمات العراقية. وكنت واثقاً من أن ذلك كان أحد الأسباب التي دعت البريطانيين إلى أن يطلبوا إخراجه من المحادثات. وفي اليوم التالي ذهب يوسف ياسين مع حافظ وهبه إلى المخيّم البريطاني، وذهبت معهما. وقد تحدّث أحد البريطانيين إلى يوسف ياسين بحديث أثار غضبه. فسألني حافظ وهبه إن كان بيسكو قد طلب أن لا يحضر يوسف المحادثات. فقلت له إنه قد طلب مني ذلك، ولكني نسيت أن أخبر الملك. ثم ذهبت إلى بيسكو واعتذرت منه لنسياني. وكان من الواضح أنه قد انزعج، لكنه بدا وكأنه قد فهم الإشارة. واستمرّ يوسف ياسين في حضور المحادثات. وفي تلك الليلة دعاني الملك للعشاء معه في خيمته. وكان حافظ وهبه هناك أيضاً. ولم يقل لي أي منهما شيئاً عن الحادثة، ولكني كنت متأكداً من أنهما كانا يشكراني لفقداني ذاكرتي فيما يخص رسالة بيسكو.

وقد دامت المفاوضات أسبوعاً آخر تم خلاله تسوية غالبية المشاكل مع العراق. لكن مصير الدويش لم يحلّ. وقد قام البريطانيون بكل أنواع المحاولات الغريبة لتقديم حل وسط بشأنه، فاقترحوا أن يبقوا الدويش في العراق أو على سفينة في الخليج أو يرسلوه منفياً إلى الهند أو سيلان حيث لا تكون لديه أية فرصة لإحداث المزيد من الإزعاج للملك. لكن جلالته بقي ثابتاً على موقفه، ورفض أن يقدّم أيّة تنازلات حول هذا الموضوع. وفي نهاية الأمر بلغ به الانزعاج من الموقف البريطاني حدّاً جعله يقول بوضوح: “إن المسؤولية كلها تقع على عاتقِكُم إذا لم تفعلوا الأمر الصواب”. ومع أن البريطانيين لم يوافقوا فوراً على مطالب الملك فإنهم وجدوا أخيراً أنه لم يكن في وسعهم إلّا الموافقة عليها. وبعد بضعة أيام أحضروا فيصل الدويش وابن لامي ونايف بن حثلين إلى خباري وضحا وسلّموهم إلى جلالته. ولعلّه من المفارقات العجيبة أن البريطانيين، اختصاراً للوقت، أحضروا زعماء الإخوان إلى هذا المكان بواسطة أعلى اختراع صنعه الكافر وهو الطائرة. ومرّة أخرى واجه الدويش ملكه. لكن جلالته لم يستخدم هذه المرة الكلمات الرقيقة مع زعيم المتمردين، فقد قال له متهكماً: “أجل. كنت تظن أنك ستجد طريقك إلى النجاة بالالتجاء إلى البريطانيين”. وأخذ يوبّخه لعدة دقائق مذكّراً إيّاه بشناعة جرائمه. وكُنّا جميعاً نظن بأن الدويش سيُعدَم، لكن الملك كان رحيماً مرةً أخرى، فبعثه مع رفيقيه مكبّلين بالأغلال إلى سجن الرياض. وكانت معنوية ذلك الرجل العجوز محطمة، فلم يعش طويلاً بعد أن أصبح محاطاً في السجن بمجرمين عتاة من عامة الناس يكادون يسرقون طعامه منه. وفي خلال ستة شهور مات بمرض ألمّ بقلبه أو بحزن طغى عليه وحطّمه. وبموته وجدت روحه السلام.

وبعد أن رتّب الملك إرسال الدويش إلى الرياض طلب من حافظ وهبة ومني الذهاب إلى الكويت لنرى إن كان هناك من أسرة الدويش من يرغب في العودة إلى نجد. وقد انتهت مهمتنا بأسرع مما كنا نتوقعه. ففي طريقنا إلى الكويت التقينا بابن الدويش، بندر، الذي كان الباقي الوحيد من أبنائه. وكان قد قَدِمَ من هناك ومعه أقاربه ونساؤه. وكان معهم ما بقي من إبلهم، بما فيها مجموعة فريدة تتكون من حوالي مائتي بعير ذات لون أسود تعرف بالشُّرْف. وكانت هذه الإبل موضع فخر الدويش الخاص، كما كانت تستعرض في المناسبات التي يحتفل بها. ولم يكن الملك في نزاع مع أسرة الدويش. ولذلك فقد عُومِلَت معاملة حسنة، وسمح لها بأن تعيش في الرياض. وقد أعطى الملك تلك الإبل الخاصة لابنه محمد، الذي أعادها فيما بعد إلى أسرة الدويش.

وفي أثناء مفاوضات خباري وضحا دعا المسؤولون البريطانيون جلالته إلى مقابلة ملك العراق، فيصل، في الخليج العربي علامة على حسن النوايا وإنشاء صداقة جديدة بين بلديهما فوافق الملك على ذلك. ورتّب البريطانيون أن تأتي سفينة تابعة لشركة “كيبل آند وايرليس” إلى رأس تنّوره ليستقلّها الملك ويسكن فيها خلال المحادثات. وقد جرَت تلك المحادثة بشكل غير عادي في وسط الخليج العربي. وقد أتى الملك فيصل إلى هناك على ظهر سفينة تدعى (نرجس)، وأتى السير فرانسيس همفرز، القنصل العام البريطاني في العراق، على طرّادة تسمى لوبين. وكان أول لقاء للمؤتمرين في السابع والعشرين من فبراير سنة 1930 على ظهر السفينة المُقِلّة لجلالته حيث قام السعوديون باستضافة الآخرين وحين صعد الملك فيصل إلى ظهر السفينة حيّاه حرس ابن سعود الخاص. وقد أثار المنظر الفذّ لهؤلاء المحاربين في نفس فيصل الذكريات القديمة لحروبه الصحراوية مع لورانس العرب فكانت كلماته الأولى: “إني أشعر بالفخر والابتهاج أن أكون بين جنود عظماء كهؤلاء” فأجابه جلالته، بسرعة بديهته المعروفة، قائلاً: “ما دام بلدانا صديقين فإن هؤلاء الجنود جنودك كما أنهم جنودي”، وتلا ذلك اجتماع طويل متّسم بالمودة. وحين انتهى ذلك الاجتماع دعا الملك فيصل جلالته للاجتماع به على ظهر سفينته في اليوم التالي. لكن الاجتماع تأجّل بسبب هبوب عاصفة مفاجئة أجبر السفن الثلاث على أن تلجأ إلى المياه الشرقية عند النهاية الشمالية للخليج العربي. وقد تمّ الاجتماع الثالث والأخير على ظهر الطرّادة لوبين، وودّع كل من العاهلين الآخر بعبارات الصداقة وحسن النوايا.

وحين انتهت المحادثات سأل السيد همفرز جلالته عمّا إذا كان يسمح بمقابلة جلوب باشا، الذي كان قد طلب الإذن في المجيء إليه. لكن جلالته لم يوافق على ذلك لأن جلوب كان قد أعطى تفصيلات عن أمكنة القبائل على الحدود العراقية السعودية على القوة الجوّية البريطانية مما مكّنها من تنظيم غزوات جوّية إلى داخل الأراضي السعودية. وقد شعر الملك أن جلوب مارَس تأثيراً سيئاً على العراقيين. وكان من المعتَقَد، أيضاً، أنّه كان يعمل ضد مصالح العرب وآمالهم في الاستقلال من القوى الاستعمارية. وحين رفض الملك مقابلته قال السيد همفرز: إنك تسمع عن الناس قصصاً حسنة وسيئة، لكن ما لم تقابلهم شخصياً فلن تستطيع أن تكوّن فكرة صائبة عنهم. فكان أن أعاد الملك النظر في الموضوع وأذِنَ لجلوب باشا بمقابلته. وقد تحادث الرجلان بعض الوقت، لكن لا أظن أنهما تجاوزا في حديثهما مرحلة المجاملة الرسمية. ومن المؤكّد أنه لم يكن بينهما أية ألفة حقيقية.

وبعد ذلك اللّقاء اتّجهت السفينة المُقِلّة لجلالته إلى الأحساء. وفي طريقها إلى هناك قرّر أن يزور صديقه القديم الشيخ عيسى آل خليفة، حاكم البحرين التي كانت حينذاك تحت الحماية البريطانية. وكان الشيخ عيسى، كما ذُكِر سابقاً، قد بذل مساعدة وحماية لابن سعود وأبيه خلال فترة جلائهما عن الرياض. وكان دائماً متعاطفاً مع آمال الملك الشاب. ولذلك أعطى جلالته أوامره إلى قائد السفينة ليتّجه إلى ميناء المنامة في البحرين. وفي الطريق إلى هناك أمرني أن أبعث برقيتين؛ إحداهما إلى الشيخ عيسى، والثانية إلى القنصلية البريطانية للإخبار عمّا كان قد عزم عليه. وقُبَيل أن ترسو السفينة هناك عند منتصف الليل وصلت برقّية جوابية من القنصل البريطاني تفيد بأن الشيخ عيسى كان مريضاً وليس موجوداً في المنامة، ولذلك فإنّه لا يستطيع استقبال جلالته. فقرّر الملك على مضَض أن يُطِلّ على ظهر السفينة ويتّجه إلى العقير. لكن اتّضح بأن البرقية كانت كاذبة. ففي الصباح الباكر من اليوم التالي سمع أبناء الشيخ عيسى بأن ابن سعود قد قرّر ألّا ينزل في البحرين فأتوا فوراً على عِدّة قوارب إلى سفينته وطلبوا منه أن يأتي إلى الشاطئ لأن أباهم كان ينتظره في الميناء، وقالوا للملك: “إما أن تنزل وترى أبانا وإلا فسنذهب جميعاً معك إلى الرياض”. ولإصرارهم وافق على أن ينزل إلى الشاطئ، لكنه قال بعبارة مؤكدة: “إني لا أرغب في رؤية القنصل البريطاني في البحرين”. ذلك أن جلالته كره اللعبة التي حاولها القنصل رغم أنه استطاع بسهولة أن يعرف سببها. ففي ذلك الوقت كانت هناك حركة وطنية متزايدة في البحرين. وكانت تلك الحركة تسبب الكثير من المتاعب للبريطانيين. وقد حاول القنصل في هذه الظروف أن يتفادى مجيء أعظم قائد عربي مستقبَل إلى عَتَبَة بابِه لخوفه من أنّ ذلك سيؤدي إلى مزيد من المظاهرات الوطنية.

وقد سُرَّ الشيخ عيسى كثيراً برؤية جلالته لأنّه قد مضت عدة سنين منذ أن رآه آخر مرّة. وقد أخبر الشيخ عيسى الملك بأنه كان خائفاً من أن يموت دون أن يراه مرة أخرى، لكنه الآن سيموت بسلام. وقد أجابه ابن سعود بقوله: “ما دام والدي قد توفي فليس لي من أستشيره إلّا أنت”. وتحادث الرجلان عدّة ساعات أخبر الملك فيها الشيخ عيسى عن مشاكله مع رجال القبائل من الإخوان، وعبّر عن أمله في أن يُكوِّن مملكة متّحدة يعيش فيها الجميع بسلام ورغد. ثم تناول جلالته غداءً خفيفاً مع الشيخ عيسى وأسرَتِه. وبعد ذلك بقليل زار الملك بلدة الرفاع في جزيرة المحرّق الصغيرة حيث تناول العشاء مع وكيله التاجر النجدي المشهور، القصيبي، وحين أراد جلالته مغادرة البحرين أتى الشيخ حمد بن الشيخ عيسى إلى شاطئ الزلاق حيث كانت سفينة جلالته تنتظره ورجا له سفراً سعيداً. وكان الشيخ حمد، حينذاك، كبير السن. لكنه لم يؤدِّ فريضة الحجّ بسبب حدس منجّم بأنه سيموت إذا أدّاها. وكان ذلك نوعاً من الخرافات التي يحاربها كل متّبِع لمذهب ابن عبد الوهاب. وكانت كلمات جلالته الأخير لحمد: “إنّي لن أكون مسروراً ما لم أرَكَ في مكة”.

وبعد سفر قصير نزل الملك في ميناء العقير. ومن هناك سافر إلى الهفوف حيث قابله صديقه القديم ابن عمّه عبد الله ابن جلوي، الذي كان في ذلك الوقت، قد شُفِيَ من مرَضه. كما رأى ابنيّ عبد الله، سعوداً وعبد المحسن [1]. وأخيراً عاد إلى الرياض بعد غيابه عنها مدّة شهرين تقريباً.

ولم ينسَ جلالته الإهانة التي قام بها البريطانيون في البحرين تجاهَه. وقد سَنَحت الفرصة له في السنة التالية أن يردّ على تلك الإهانة. فقد وصل إلى الرياض طلب من الحكومة البريطانية عبر سفيرها في جدة للإذن لإيرل اف اتلون وزوجته الأميرة أليس بأن يزورا جلالته ويعبُرا بلاد العرب من جدّة إلى العقير. فرفض الملك ذلك، وأمرني أن أرسل برقية جوابيه تفيد برفضه. وكان نَصُّها:

” من المؤسف أن الأوضاع في الصحراء ليست تحت السيطرة التامّة، ولا يزال هناك بقايا من القبائل الثائرة التي لم تخضع بعد. وليس من المناسب ولا المستحب في الوقت الحاضر أن تعبرا الصحراء”.

ولِئلّا يفهم البريطانيون أن ذلك كان السبب الحقيقي لرفضه طلب مِنّي الملك أن أضيف مثلاً عربيَّاً نصه “البادئ أظلم”، قاصداً بذلك أن البريطانيين أنفسهم كانوا مسؤولين عن موقفهم تجاههم. وقد اهتزّت السلطات البريطانية بهذه البرقية إذ لم يسبق أن تعامل الملك مع البريطانيين بمثل هذا الأسلوب أبداً. وكان الموضوع بحذافيره محرجاً لهم، فأسرعوا إلى إعادة الأمور إلى نِصابها. وكتبوا فوراً رسالة إلى جلالته يقولون فيها أن كل المسؤولين في قنصلياتهم في الخليج العربي والكويت والعراق يودّون أن يزوروه ويعتذروا منه لما حدث من القنصل البريطاني في البحرين. وتمّت الزيارة فعلاً وكانت تصوّر مدى تقدير الحكومة البريطانية للملك ولعلاقات الصداقة معه. وبعد الزيارة عادت العلاقات بين جلالته والبريطانيين إلى حالتها الودّية الأولى، وسمح لأيرل وأليس بدخول البلاد.

ولقد أتى الزائران أخيراً إلى المملكة في سنة 1938م. وبعد عبور الجزيرة العربية زارا مسؤولين مختلفين في شركة الزيت العربية في الظهران. وكانا قد قاما أولاً بزيارة الملك في جدة. وكانت مناسبة لا تُنسى؛ إذ كانت نبيلة أتلون أول امرأة تحضر مأدبة عربية على مستوى الدولة. وكانت، أيضاً، أول مرّة يتعشى فيها ملك وهابّي عَلناً مع امرأة. وكنت أشعر دائماً بأن اللقاء كان يرمز إلى الطريقة التي بدأ بها الأوروبيون اهتمامهم بالدولة العربية الجديدة وتقديرهم لها. فلم تعُد صحراؤنا منطقة غامضة مجهولة لا تُعرَف إلا بفوضاها، وإنما أصبحت بين عشية وضُحاها مملكة متّحدة عظيمة تحت قيادة عاهل مُلهِم يسيطر على جميع أفراد شعبه بوضوح لا لبس فيه.

لقد اتخذت دولة المملكة العربية السعودية الآن شكلها النهائي، وأصبح ابن سعود قادراً على أن يترك مهمة بناء مملكته وراءه ويأخذ دور الحاكم القويّ في الحيط العالمي.


[1] عبد المحسن هو أمير المنطقة الشرقية في الوقت الحاضر.

قائمة المحتويات