وَمُدَجَّجٍ كَرِهَ الكُمَاةُ نِزَالَهُ

لاَ مُمْعنٍ هَرَباً وَلَا مُسْتسلِمِ

جادَت لهُ كَفِّي بِعاجِلِ طَعْنةٍ

بِمُثَقَّفٍ صَدْقِ الْكُعُوبِ مُقَوَّمِ

بِرَحيبَةِ الفَرْغَيْنِ يَهْدي جَرْسُهَا

باللَّيلِ مُعْتَسَّ الذِّئابِ الضُّرَّمِ

(عنترة بن شداد)


ما كان الشاب عبد العزيز بن سعود ليختار عدوّاً أشد هولاً من عبد العزيز بن متعب رشيد، الذي كان رجلاً شجاعاً ثابت الجنان ذا سمعة مرهوبة في ميدان القتال. فلقد قيل بحق – وابن سعود أول من يعترف بذلك – أنه لم يطأ فيافي الصحراء رجل أشجع منه في زمنه. ولعلّ مما يوضح كبرياءه وشجاعته أكمل التوضيح الحكاية التالية التي كثيراً ما رويت عنه. فذات يومٍ كان جالساً مع عدد من المشائخ البارزين في مجلسه وإذا بعقرب صحراوية تتسلّل داخل ملابسة وتبدأ في لدغه دون هوادة. والعقرب الصحراوية وإن تكن أقل فظاعة من العقرب الموجودة في المدن إلا أنها مؤلمة جداً على أية حال. ومن المؤكد أن أي رجل عادي كان سيقفز من مكانه ويلقي بملابسه بحثاً عنها. لكن ابن رشيد لم يكن عادياً في أي شيء. فرغم أن العقرب استمرت في لدغه فقد ظل في مكانه ساعات يتحدث بمودة مع ضيوفه دون أن يظهر أية علامة بأن شيئاً ما كان يزعجه أو يؤذيه. ولم يذهب إلى مهجعه الخاص ليبعد عنه العقرب ويقضي عليها إلا بعد أن ترك مجلسه آخر ضيف من ضيوفه.

كانت أسرة آل رشيد من أقوى الأسر في جزيرة العرب لمدة طويلة. ومنذ أن أرغمت أسرة آل سعود على المنفى لم تعتبر المنطقة المحيطة بالرياض إلا منطقة من مناطق حكمها. وكان من المتوقع أن يردّ عبد العزيز بن رشيد فوراً على استيلاء ابن سعود على الرياض بإرسال حملة انتقامية لاسترداد تلك المدينة. فقد كان ابن سعود قليل الأتباع، وكان استحكامات الرياض، التي يسّرت له دخولها بسبب تهدمها، لا تزال غير مهيأة لمقاومة حصار قوة كبيرة. ومن هنا كانت لدى ابن رشيد فرصة مواتية لخنق حكم ابن سعود الوليد في مهده لكنه بدلاً من أن يأخذ خطر ذلك الأمير مأخذ الجد كان أشد كبرياء من أن يعتبره منافساً ذا شأن. وارتكب خطأ فادحاً حينما عامله بازدراء كما لو كان ذبابة يستطيع أن يسحقها دون عناء في أي وقت مناسب. ولم يقرر أن يزحف إلى الجنوب لمعاقبته إلا في خريف عام 1902م مما أعطى ابن سعود مهلة تسعة شهور ثمينة تمكن خلالها من تثبيت مواقعه. وكان أول عمل قام به أن جعل أهل الرياض يصلحون استحكاماتها تحسّباً لهجوم مضاد كان يتوقعه في أية لحظة وقد وضع نفسه قدوة لرعاياه الجدد بأن عمل شخصيا ساعات طويلة بإحضار الطين إلى البنائين الذين كانوا يبنون جسور السور. وكان تعليق ابن رشيد على ذلك: “دعوهم يبنوا حتى يشبعوا وسوف نهدم السور في لحظة واحدة”. لكنه على أية حال لم يقم بأي عمل لتنفيذ تهديده.

وحين تمّ إصلاح سور الرياض أحضر ابن سعود أسرته كلها إليها. فتنازل له أبوه عبد الرحمن فوراً عن الحكم، وسلّمه سيف الأسرة التاريخي، الذي كان لابن عبد الوهاب ثم أصبح في حوزة آل سعود أجيالاً رمزاً لقوتهم. وكان من نتائج الاحتفال العام بذلك، وعودة آل سعود إلى عاصمتهم التقليدية؛ إضافة إلى الطريقة الدرامية التي تمّ بها الاستيلاء على الرياض، أن اقتنع كثير من الزعماء المحليين المترددين بأن تيار القدر قد أخذ يتجه ضد ابن رشيد. فجاؤوا زرافات إلى الرياض مقدّمين ولاءهم لابن سعود. وخلال شهورٍ قليلة أصبح لدى ذلك الشاب جيش كافٍ يتيح له أن يترك الرياض في عهدة أبيه ويغزو المناطق الواقعة جنوبها لتوسيع نفوذه. وحين بدأ ابن رشيد تحركه من حائل إلى الجنوب في حملة انتقامية كان ابن سعود قد أعاد سيطرة أسرته على أجزاء كبيرة من المناطق الممتدة من الرياض حتى حدود الربيع الخالي، وأصبح على درجة من القوة تمكنه من مجابهة عدّوه الكبير مجابهة الندّ للندّ.

وكان هدف حرب الصحراء، حينذاك، محاولة التفوق على العدو إما بمهاجمته على حين غرّة وإما بالحيلولة بينه وبين الماء. وبما أنه كان لدى كلا الجيشين كشافه (سبور) وأدلَّاء فإنه لم يكن من السهل على أي منهما أن يخفي نفسه عن الآخر. بل إنه لم يكن من غير المألوف أن يعلم كل من في جزيرة العرب أين يوجد كل من الجيشين. ذلك أن أخبار تحركهما كانت تنتشر بسرعة مذهلة عن طريق البدو الرحل من مكان إلى مكان. وكان يجتمع كبار السن في كل قرية يتجادلون بالساعات عن الخطوة التالية من حركات الجيشين، وينتظرون قادماً جديداً يرون من أخباره من كان مصيباً في تخمينه. وكان ذلك النوع الفريد من الحرب مثل مطاردة القط للفأر؛ فقد كان قوامه في الدرجة الأولى السير والسير المعاكس مصحوباً بهجمات ومناوشات بسيطة متكررة من النادر أن تتصاعد إلى معركة ذات نطاق واسع وظل هذا النمط من المجابهة بين ابن رشيد وابن سعود قائماً حتى نهاية سنة 1902م حين وقعت معركة بينهما في الدلم التي تبعد عن الرياض، جنوباً بشرق، حوالي خمسة وخمسين ميلاً. وقد نجح ابن سعود في وضع جنود عدوّه في كمين، ثم اتبع ذلك بمهاجمتهم بفرسانه مما اضطّرهم إلى الانسحاب السريع نحو الشمال. ولحسن حظ ابن سعود لم يدركوا أن ذخيرة رجاله كانت قد أوشكت على الانتهاء.

ونتيجة لهذه المعركة تغيّر موقف ابن رشيد من عدوِّه تغيراً سريعاً. فبدلاً من النظر إليه بازدراء أقسم أن لا يعود إلى حائل أبداً حتى يقضي عليه أو يموت دون ذلك.

واستمرت المناوشات المتقطعة طيلة سنة 1903م حيث قام ابن رشيد بعدة غزوات ناجحة ضد قبائل في المناطق الشمالية قرب الأرطاوية وحدود الكويت. وبدا من المحتمل هجومه على حليف ابن سعود؛ الشيخ مبارك، في الكويت ذاتها. ووجد الشيخ مبارك نفسه في ورطة صعبة؛ فقد كان حريصاً على أن يبدو مؤيداً للجانب المنتصر في نهاية الأمر.

لكنه لم يكن عالماً مَنْ المرجح انتصاره. وكان حلّه للموقف أن يبعث رسائل منتظمة إلى كل من ابن سعود وابن رشيد معبّراً لكل منهما عن صداقته وتأييده. وكانت تلك الرسائل عادة تُملى في وقت واحد. وذات يوم أخطأ كاتب الشيخ مبارك فخلط بين الغلافين. وكانت النتيجة أن استلم كل واحد من الزعيمين الرسالة الموجهة إلى خصمه. وليس من المعلوم ماذا كان رد فعل ابن رشيد على هذا الأمر، لكن ابن سعود لم يغضب على الإطلاق وإنما كان من الممتع لديه أن يرى كيف انفضحت ازدواجية موقف صديقه القديم.

ومهما كانت الحال وأينما كان ولاء الشيخ مبارك فإنه من المؤكد أن ابن سعود لم يكن مستعداً أن يرى الكويت تقع في يدي ابن رشيد. لذلك تحرك بقواته شمالاً لدرء الخطر عنها. وهنا عاد ابن رشيد بسرعة نحو الجنوب محاولاً، للمرة الأولى والأخيرة، أن يستولي على الرياض بهجوم مفاجئ. ولسوء حظه كان عبد الرحمن بن فيصل قد اتخذ جميع الاحتياطات الممكنة لحماية المدينة واكتشف رجال استطلاعه تقدُّم عدوّه.

وحين وصل ابن رشيد إلى الرياض كانت محصّنة لدرجة أنه لم يحاول أن يهاجمها، واضطر إلى الانسحاب نحو الشمال مرة أخرى خشية أن يباغته ابن سعود من الخلف. وكان انسحابه سريعاً بحيث أن السريّة التي أرسلها عبد الرحمن بن فيصل من الرياض لتعقّبه استطاعت أن تستولي، دون صعوبة، على مدينة شقراء التي تبعد عن الرياض حوالي ثمانين ميلاً من الناحية الشمالية الغربية. ثم لحق ابن سعود نفسه تلك السرّية ومعه تعزيزات من قواته، وتمكن بعد قليل من الاستيلاء على بلدة الزلفي دون أية خسارة تقريباً. وبذلك امتد نفوذه شمالاً حتى حدود القصيم. وهكذا بعد ما لا يزيد عن السنة إلا قليلاً استطاع الأمير الشاب، الذي كان يعتبره ابن رشيد إزعاجاً لا يستحق الاهتمام، أن يستولي على نصف المناطق التابعة لعدوّه، وبدا واضحاً أنه مهيأ للاستيلاء على ما بقي منها.

وفي صيف سنة 1903م تقدّم ابن سعود إلى القصيم بمساعدة الشيخ مبارك، أمير الكويت. وفي مستهل سنة 1904م استولى على فيضة السرّ وعنيزة. وفي يونيو من نفس السنة سقطت بريدة في يده بعد حصار دام عدة أسابيع. وبذلك أصبح مسيطراً على أجزاء كبيرة من القصيم، وبات قريباً من مدينة حائل ذاتها، وكان ذلك مما أزعج ابن رشيد كثيراً وجعله يلتمس من الأتراك أن يساعدوه. وكان هؤلاء حتى تلك المرحلة من الصراع يساعدونه بالمؤن والأسلحة، فاقتنعوا حينئذٍ أن يمدّوه بالرجال أيضاً. وأرسلوا إليه ما لا يقلّ عن ثمان كتائب من جنودهم المدرّبين تدريباً جيداً والمزوّدين بما يحتاجون إليه من أسلحة. كان أولئك الجنود – على عكس ما كان عليه البدو – مزوّدين بالبنادق الحديثة وبكميات كبيرة من الذخائر والمدفعية. وكانوا بدون شك يتوقعون أن يسحقوا جيش ابن سعود الذي كان مسلحاً تسليحاً خفيفاً والذي لم يكن جيشاً نظامياً ولا مدرّباً. وكان من المحتمل جداً أن يحقق الأتراك ذلك لو أن ابن سعود حاول أن يشتبك معهم في معركة تقليدية واسعة النطاق. لكنهم لم يكونوا معتادين على حرب الصحراء وأوضاعها، وكانوا يفتقدون القدرة على سرعة الحركة. ولقد مات مئات منهم بسبب المرض دون أن يطلق ابن سعود عليهم رصاصة واحدة. وبمناوراته البارعة وقطعه لخطوط تمويناتهم تمكّن من التّغلب عليهم. وفي شهري سبتمبر وأكتوبر سنة 1904م حدثت سلسلة من الاشتباكات في البكيرية بين ابن سعود من جهة وبين ابن رشيد وحلفائه الأتراك من جهة أخرى. وكانت نتيجتها انتصاراً كاملاً لابن سعود. فقد قضى على القوات التركية واستولى على ذخائرهم وأسلحتهم ومدافعهم، وأجبر ابن رشيد على الانسحاب إلى حائل بعد أن خسر عدداً كبيراً من الإبل وكمية كبيرة من العتاد. وعلى أية حال فإن ابن رشيد لم يفقد كبرياءه فعسكر بعناد خارج عاصمته ليبرّ بقسمه الذي كان قد أقسمه وهو ألا يدخل حائل حتى يقضي على ابن سعود.

وبعد ذلك النجاح الكبير اضطر ابن سعود إلى ترك القصيم فجأة ليساعد في القضاء على ثورة قامت في قطر. ولم تحدث أية اشتباكات بينه وبين ابن رشيد لمدة تقترب من السنة. ثم عزم ابن رشيد سنة 1906م على أن يهاجم ابن سعود مرة أخرى، وبدأ يجمع جيشاً قوامه أكثر من عشرين ألف مقاتل والتحقت به قبيلة شمّر كلها من أقصى شمال منطقة جبل شمّر، كما التحق به عدد من قبائل أخرى أصغر منها. وأصبح لديه ما لا يقلّ عن ألفين وخمسمائة فارس من خيرة فرسان شمَّر. وحين علم ابن سعود باستعدادات عدوّه قام فوراً بجعل قواته مهيأة للحرب.

وحوالي ذلك الوقت بعث ابن رشيد رسالة إلى ابن سعود يقول له فيها: إنه لمن العار على رجلين مسلمين أن يتسببا بإراقة دماء لا ضرورة لها في حرب دائمة بينهما. واقترح أن تحلّ المشكلة القائمة بينهما بمبارزة شخصية يحصل الفائز فيها على كل شيء. وكان ذلك الاقتراح مغرياً لابن سعود الذي كان محارباً ماهراً، لكنه لم يكن واثقاً بابن رشيد ولذلك رفض الاقتراح بلباقته المعهودة. وكان أن أثنى في جوابه على شجاعة عدوه وعلق على الموقف بقوله: إن ابن رشيد بشجاعته المتهوّرة، كان لديه رغبة في الموت بينما أريد أنا الحياة. وأن رجلاً يريد أن يحيا لا يسلك سبيل الحكمة إذا نازل رجلاً يريد أن يموت. وعلى أية حال، فإن الأمر كله بيد الله وهو­ وحده المقدر لنهاية النزاع.

وكانت خطوة ابن سعود التالية أن زحف إلى المناطق الواقعة شمال القصية حيث ما لبث أن اشتبك في مناوشات أوليّة مع جماعات صغيرة من قوات ابن رشيد وكان هذا الأخير قد نشر قواته إلى الغرب والشمال الغربي من القصيم. وفي إحدى المناسبات النادرة التي استطاع فيها أن يتغلّب على ابن سعود في المناورة زحف بسرعة نحو الشرق وعبر مناطق في القصيم حتى وصل إلى الجنوب الشرقي من عنيزة. وبذلك أصبح جيشه بين ابن سعود وبين الرياض، وتمكن من قطع مواصلات تعزيزات خصمه وإمداداته. وحين أدرك أتباع ابن سعود خطورة الموقف المحيط بهم وجد أكثرهم أنه من الحكمة أن يتفرقوا في الصحراء، تاركين قائدهم مع حفنة قليلة من جنوده المخلصين. ويقال إنه لم يبق بجانبه أكثر من مائتي رجل ومعهم مائة من الإبل وعشر من الخيل. ولم يكن هناك موقف أكثر حرجاً ويأساً من ذلك الموقف.

لقد كتبت قصص كثيرة عن معركة روضة مهنا. ولقد روى لي شخصياً عبد الرحمن بن مطرف، حامل راية ابن سعود، أخبار تلك المعركة. وكان ممن حضرها مما يجعلني أثق ثقة كاملة بصحة ما روى. وقد ذكر أن ابن سعود اجتمع بحوالي عشرة من زعماء القبائل الذين ظلوا معه رغم أن اتباعهم تفرقوا عنه. وتقرر في الاجتماع أن يحاولوا التسلّل إلى خطوط العدو بالسير ليلاً والاختفاء نهاراً. وفي الليلة التالية بدأت الجماعة الصغيرة سيرها واثقة بمهاراتها الصحراوية وبرحمة الله أن يحميها من عيون خصمها. ومع أن ابن سعود كان يأمل أن يظل بعيداً عن أية فرقة كبيرة من جيش ابن رشيد فإنه وجد نفسه فجأة قرب معسكره لا يفصله عنه سوى كثيب من الرمال. فصعد ذلك الكثيب ووقف على قمته ليلقي نظرة فاحصة على عدوّه. ورجاه أصدقاؤه أن يبتعد عن مكانه بسرعة لكنه ظل فيه كأن قدميه قد تسمرتا في الرمل ورفض ان يتحرك. ولازدياد قلقهم عليه ازداد توسلهم إليه بأن يترك المكان فوراً قائلين له: أيها الأمير إذا فُقِدّتَ أنت فُقِد كل شيء. بل إنهم حاولوا سحبه من الكثيب، لكنه دفعهم بعيداً عنه وقال لهم، والشرر يتطاير من عينيه: انظروا. إن العدوّ غافل تماماً ولا يعلم بوجودنا وإني لن أتحرك من هنا حتى أجرب حظي معه. فقال له أتباعه بتوسل: ولكن ذلك عمل انتحاريّ! فأجابهم إنها فرصة أجلّ من أن تفوَّت. وأخبرهم بخطة استطاع أن يفكر فيها في تلك اللحظة. فوافق الزعماء على محاولة الخطة بشرط أن ينسحبوا وإياه فوراً إلى مسافة آمنة. ورفض ابن سعود أن يفعل ذلك في بداية الأمر إذ كان مصمماً على أن يشترك شخصياً في المعركة القادمة. لكن الزعماء كانوا مصرّين على رأيهم فوافقهم بتردّد على الانسحاب. وبعد أن أعطى تعليماته حول الطريقة التي سيتم بها الهجوم انطلق مع رفاقه من الزعماء إلى مكان آمن.

وكان أن قسمت القوة المكونة من مائتي رجل إلى فريقين يسير كل منهما بحذر إلى تلّ من الرمال على جانبين متقابلين من معسكر ابن رشيد على أن يتجنّبوا حراسه القلائل وانتظر رجال ابن سعود كي ينام عدوُّهم. وعند منتصف الليل خمدت أكثر نيران المعسكر وأصبح كل شيء هادئاً. فتسلّل الفريق الأول بصمت وخلسة إلى المعسكر. ولم يكن هناك إلا ومض صغير من نور، فاتجهوا إليه كفراشات تطير في الظلام إلى نار. وحين اقتربوا من ذلك الومض اتضح أنه كان شمعة في داخل خيمة. وفجأة خرج من تلك الخيمة شخص يتبعه خادم يحمل معه إبريقاً. فجمد المهاجمون فوراً في أماكنهم. لكن في خضمّ الهياج اهتزت راية ابن سعود في يد حاملها وأحدثت كراتها المعدنية والوشي الملصق بها نوعاً من الضجيج. فصاح الرجل الذي خرج من الخيمة باتجاههم قائلاً: “وش هالدبرة يالفريخ”. وكان من المعروف أن الفريخ حامل راية ابن رشيد. وكان صوت اللهجة الآمرة التي استعملها ذلك الرجل توضح أنها اللهجة التي يستعملها سيّد مع خادمه. ولم يكن ذلك الشخص الواقف بإزاء الخيمة سوى ابن رشيد نفسه. وكان قد فهم خطأ أن حامل راية ابن سعود هو حامل رايته. ولم يكن رجال ابن سعود في حاجة إلى أكثر من لحظة واحدة ليدركوا مقدار حظهم الغريب. فصاح أحدهم بزملائه قائلاً: “ابن رشيد يا طلاّبته”. فتدافع المهاجمون نحوه. وبالرغم من أن ابن رشيد حاول بشجاعة أن يدافع عن نفسه بسيفه المصلت فإنه غلب على أمره وقتل. وقد أيقظت الضجة المعسكر كله فوراً وبدا أن المهاجمين باتوا معرضين للفناء. لكن في تلك اللحظة بالذات بدأ الفريق الثاني من رجال ابن سعود المرابطون في الجانب الثاني من تلال الرمل بإطلاق نيرانهم المكثّفة على المعسكر مستعملين ذخائرهم بأقصى سرعة ممكنة. وقام رجال الفريق المتسلّل داخل المعسكر بمثل ما قام به زملاؤهم الآخرون. وكانت تلك حيلة بارعة ناجحة. فقد بدا لجنود ابن رشيد المذهولين، الذين أُوقظوا من نومهم بعجلة تامة، أن معسكرهم قد هُوجِم من جميع جهاته بجيش كبير. وبعد أن حُرِموا من زعيم يقودهم تحولوا إلى غوغاء غير منظمة. ولأنهم كانوا يظنون أن عدوّهم كان بينهم بكل قواته أخذوا يطلقون النار دون تمييز داخل معسكرهم. وهكذا أصبحت أصداء نيران البنادق تملأ كل جانب حيث بدأت مجموعات من جنود ابن رشيد المرعوبين يقاتل بعضها بعضاً تحت جنح الظلام غير مدركين أن عدوهم لم يكن موجوداً إلا في خيالهم فقط.

وفي جوّ الاضطراب الذي ساد المعسكر تمكن رجال ابن سعود من الهروب دون خسائر في الأرواح تقريباً. وقد انسحبوا بأقصى ما يمكن من السرعة آخذين معهم خاتم ابن رشيد برهاناً على مقتله. وكان ابن سعود ينتظرهم في مكان معيّن سبق الاتفاق عليه. وبما أنه كان يمتطي جواداً وأن رجاله المائتين لم يكن لديهم سوى مائة بعير فإنهم لم يتمكنوا من اللحاق به إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام. وحين علم بنجاحهم سُرَّ كثيراً. لكن مقتل ابن رشيد بدل له أمراً بعيد الاحتمال لدرجة أنه رفض أن يصدق رجاله حين أبرزوا له خاتمه وأمرهم أن يعودوا إلى جثته قائلاً: إني لا أستطيع أن أصدقكم حتى تأتوني برأسه. فعاد رجاله فوراً إلى أرض المعركة وهم في أشد الحذر. وهناك لم يجدوا سوى موتى من رجال وحيوانات. لقد كان القتل في المعسكر كثيراً. وكان الناجون قد فرّوا عائدين إلى حائل دون أن يقوموا بأية محاولة لدفن قائدهم. فقُطِعَت رأسه وجيء بها في غمرة النصر إلى ابن سعود. وهكذا مات أعظم أعدائه، وبعد مقتل ابن رشيد في روضة مهنّا لم يعد بقاء حكم ابن سعود موضع شك على الإطلاق.

قائمة المحتويات