(والذينَ آمنوا وعَمِلوا الصالِحَاتِ لَنبوِّئنّهم من الجَنِّة غُرَفَاً تَجرِي مِن تَحتِها الأنهَارُ خَالِدينَ فِيها نِعم أجرُ العامِلِين. الذينَ صَبَروا وعَلَى ربِّهم يَتَوكَّلُون)

سورة العنكبوت (58-59)


في شهر مايو سنة 1926م (1344هـ) وصلتُ إلى جدّة لأبدأ خدمتي لدى ابن سعود. ورُبّما كان من حُسنِ حَظّي أنّهُ كانَ موجُوداً في الحِجاز حينَ بدأتُ العملَ لَديه لأنّ الحياة هناك، وإن كانت غير هيّنَة بأيّةِ حال، لم تكُن بمِثلِ قَساوَتِها في نَجد. ومِن هُنا تهيّأ لي وقتٌ أُكَيِّفُ خِلالَه نفسي للانتقال من الحياةِ المُترَفة نِسبِياً، والتي كُنتُ أحياها في كلّ من بومبي والبَصْرَة، إلى الحياة الجافّة في الجزيرة العربية.

وبعدَ يومٍ من وصولي إلى جدّة أتَت سيّارات تحملني وتحمل آخرين معي كانوا يرغبون في مقابلة الملك إلى مكة المكرمة. وحين وصلتُ إليها أُسكِنتُ في بيت ضيافة خاصّ بجلالته. وكان وصولي إليها صباحاً، فطُلِبَ مِنِّي أن أنتظر في مقرّي حتّى صلاة الظهر. وحينئذٍ أخذَني إلى الملك السكرتير الثاني لوزارة الخارجية، فؤاد حمزة، الذي كان يتحدّث الإنجليزية بطلاقة. وكان عبد العزيز بن سعود قد أصبح حينذاك أسطورة في حياته الخاصة. ولن أنسى أبداً لقائي الأول به. لقد تأثرت فوراً بهيئته الجُسمانية كما تأثرتُ بالهَالة التي تتّسم بها شخصيته من حيث القوّة العظيمة والذكاء والحكمة. وقد سألني جلالته بلطف عِدّة أسئلة عنّي وعن أُسرتي. ثُمّ طلب من فؤاد حمزة أن يسألني بعض الأسئلة باللغة الإنجليزية. وبعد أن أجبتُ عنها أخبَرَه بأنّ لغتي الإنجليزية تبدو مَرضِيّة. فدعاني جلالته للانضمام إلى الشُعبَة الخارجية في الديوان. وقد يبدو ذلك الامتحان أقلّ ممّا ينبغي بالنسبة للالتحاق بالخدمة المدنية. لكنّي كنتُ أشعرُ وأنا أغادر مجلس الملك بأنّه قد درس قابليّاتي دراسة دقيقة. والواقع أنني كنت متأكداً من ذلك الأمر لأني بعد أن أمضيتُ معه بعض الوقت علِمتُ أن إحدى مهاراته العديدة القدرة على وزن الناس وزناً سريعاً مضبوطاً. وبعد أن ثبّت الملك تعييني قُمنا وذهبنا جميعاً إلى المسجد حيث صلّينا جنباً إلى جنب. وكانت تلك اللحظة من أعظم اللحظات التي لا تُنسَى في حياتي.

وخلال أياميَ الأولى في مكة المكرمة بقيتُ في بيت الضيافة. وقد أكرَمني رئيس الديوان. إبراهيم بن معمّر، ودعاني إلى بيته في مناسبات عديدة. ثم استُؤجر لي بيت خاص قريب من القصر الملكي، وبدأت عملي في الديوان مباشرة. وكان مكتبي في بهو الديوان. وهناك كُنّا نعمل من الفجر إلى الظُهر، ثم نترك العمل وقتاً طويلاً للصلاة والغداء. وكُنّا نتغدّى في صالة طعام جلالته الذي كان يتغذى معنا أحياناً. وكُنّا نعود بعد صلاة العصر إلى مكاتبنا ونعمل حتى وقت العشاء الذي كان يُقدَّم بعد صلاة المغرب. وإذا تعشّينا ارتحنا قليلاً ثُمّ عُدنا إلى العمل حتى مُنتَصف الليل. وكان عملنا اليومي طويلاً؛ إذ يستغرق حوالي أربع عشرة ساعة، ولكنّه كان عملاً مُمتعاً وغير مُرهِق. وكُنّا نعمل كُلّ أيام الأسبوع. ولم تكُن لنا إجازات، عادة، إلّا أيام الأعياد الدينية التي كُنّا غالباً ما نعمل فيها على أيّة حال.

وحين قدِمَ الملك أول مرّة إلى مكة المكرمة عيّن ابنه فيصل نائباً له في الحجاز. وتماشياً مع المكانة الرفيعة لهذا المنصب منَحهُ بيت حكومة الأشراف ليُصبِح بيتاً له. واتّخذ لديوانه بيتاً خاصاً كبيراً كان لموظف في تلك الحكومة يُسمّى السَقّا. وكانت أسرة السقّاف قد كوّنت لنفسها ثروة طائلة نتيجة قيامها بأعمال قاولتها عليها الحكومة البريطانية في سنغافورة. وقد أُنفِقَت معظم هذه الثروة في إنشاء أبنية بديعة في مكة المكرمة وجدّة. وقد وضع الملك يده على عدد من هذه الأبنية لاستعماله الخاص، ولكنّه دفع تعويضات كبيرة عنها إلى أُسرة السقّاف. وبذلك ضَمِنَ، كعادته، أنها لن تخسر شيئاً من جرّاء تصرُّفه.

وكان الملك في الحجاز يتنقَّل بين مكة المكرمة وجدّة والطائف. وخلال السنوات الأولى من حُكمِه لِتلكَ المنطقة لم يكُن له محلّ إقامة معيّن في جدّة. وكثيراً ما كان يسكن في بيت الشيخ محمد نصيف المُريح ذي الطوابق الأربعة. وكان الشيخ محمد، الذي أصبح مستشاراً وصديقاً للملك، عالماً جليلاً ورجلاً من أبرز أهالي جدة، كما كان مُثقّفاً وصاحب مكتبة ممتازة. وكان له دور في إقناع الشريف حسين بالتنازل عن المُلك لابنه علي، كما كان له دور في إقناع علي بترك جدّة المحاصَرة وتسليمها لابن سعود. وكان إذا أتى الملك ليقيم في بيته سكن هو وأسرته وخدَمِه في الطابق الأعلى من البيت وترَك الطوابق الثلاثة لجلالته. ورغم التغييرات الكبيرة التي حدَثت في جدّة فإنّ البيت، بمكتَبَته، لا يزال موجوداً حتّى الآن.

وإذا لم يسكن الملك في بيت الشيخ محمد نصيف فإنّه كان ينزل بناية الحامية التركية القديمة، التي لا تزال أيضاً موجودة، حتى الوقت الحاضر. ثم بدأ يسكن في بيت فخم ذي طابق واحد يُسمّى الكندرة. وكان من البيوت المشهورة التي بنَتها أسرة السقّاف. ويقع في محلّ فندق الكندرة كونتننتال. ولم يُبْنَ قصر خاص للملك في جدّة إلا في منتصف الثلاثينات من هذا القرن. ولم يَبنِه جلالته، وإنما بَناه تاجر نجدي ثري من سُكّان تلك المدينة وأهداه إليه. وقد أصبح يُعرَف باسم القصر الأخضر لأنّ مادّة بنائه كانت خضراء إلى حدّ ما. وكان المَلِك ولُوعاً بجده. ولا زلت أذكرُ رُؤيَتَه مرة أو مرّتين في لحظة نادرة من لحظات الانفراد والطمأنينة وهو جالس في قاعة أحد أماكن إقامته يتأمّل ألوان البحر الأحمر المتغيّرة دائماً تحت أشعّة شمس الأصيل.

أمّا في الطائف فقد اتّخذ الملك قصراً كبيراً يُسمّى شبرا. وكان هذا القصر للشريف عبد الله باشا. وكان نُسخة من بِناية في مصر قد خَلَبَت لُبّه. ويقال إنه جَلَب آلاف الأطنان من المَرمَر والمواد اللازمة لبنائه قطعةً قطعة من مصر ليطمئن بأنّه سيكون صورة مطابقة لبناية شبرا الأصلية.

وهكذا كانت أماكن إقامة الملك في الحجاز. ولم يتسنّ لي وقت كاف خلال السنة الأولى من عملي لأُقدِّر جمالها. ذلك أنّي بعد أن عملت حوالي شهر في الحجاز عاد الملك ومعه رجال ديوانه إلى الرياض. وكان الاختلاف بين المكانين كبيراً وحادّاً. لقد كان يفِد إلى مكة المكرمة حجاج من كل أطراف المعمورة جالبين معهم أفكاراً أجنبية ونقوداً أجنبية وكل أنواع المختَرَعات الحديثة. ونتيجة لذلك كانت هذه المدينة أكثر مُدُن المملَكة عالَميةً وتَقَدُّمَاً، كما كانت أكثرها تمتُّعاً بالأمور الدنيوية. لكن الرياض كانت معزولة في وسط الصحراء لا يزورها الأجانب إلا نادراً. وكان اتّصالها بالعالم الخارجي قليلاً، كما أن وسائل الراحة لم تكُن متيسّرة فيها. وكانت أصغر من مكة المكرمة وأقلّ تعقيداً، لكنّ الحياة فيها كانت صعبة. وربما كان ذلك سبب في كونها عاصمة ملائمة لمَلِك يتبَع دعوة ابن عبد الوهاب. ذلك أنّه لم تكُن توجد فيها الرذائل التي تنتشر عادَةً مع ازدهار الحياة الاقتصادية. وكانت حماسة الملك الدينية الصافية منسجمة مع العقيدة التي كان يعتنقها شعبُه. وأذكر أنني دُعِيت إلى أحد البيوت الكبيرة بمناسبة عيد رمضان، وحين دخلت إلى القهوة رأيت أن أرضها مفروشة بحصباء فوقها حصير من القصب، وعند نهايتها قربة مُعلّقة يُشرَب منها الماء. وقد لاح لي حينذاك أن هذه الحالة كانت بالتأكيد هي الحالة التي كانت موجودة زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان قصر الملك أكبر بِناية في الرياض. وكانت مِساحَتُه حوالَي ثمانية آلاف متر مُربع. وكان، كغيره من بيوت المُدن مبنيّاً من اللِبن والطين. ورُغم أنّه قد هُدِّم منذ زمن. فإنّ المرء يستطيع أن يرى الآن قلعة الرياض القديمة، التي قد حُوفِظَ عليها بِعناية، وهي شبيهَة بالقَصر القديم من حيث التصميم والمَظهر العام. وكان القصر ذا طابقين وأربعة أجنحة تمتَدّ من وسَطِه إلى الجِهات الأربع وكان كلّ جَناح مُكوّناً من غُرَف واسعة وقاعات ودرج وباحات. وكان الجناح الشمالي أوسَعها. وكان في الطابق الأرضي منه مخازن مملوءة بالأطعمة المختلفة، خاصّة الرز والتّمر، اللازمة لتموين الملِك وجيشه وكان عند نهايته مطبخ كبير يتِمّ فيه إعداد الطعام لمن في القصر ولجماهير الزائرين من البدو. وكانت فيه قُدور يبلُغ عُلُوّ كلّ واحدة منها بين ثمانية وعشرة أقدام وتتّسع لطبخ بَعِير كامل. وكان الطبّاخون يعُدُّون كل يوم الوجبات التقليدية من الرز المسلوق واللّحم لِما لا يقِلّ عن مائة ضيف بدَوي. وكان هؤلاء يتناولون الطعام المُقَدّم إليهم في دكّة واسعة فوق المطبخ مباشرة.

أما الجناحين الجنوبي والشرقي من القصر فكان فيهما مكاتب ومستلزمات الشؤون الداخلية للخاصّة المَلَكيّة وإدارة الجيش ومساكن لخمسين أو ستِّين زِنجياً كانوا خَدَماً وحُرّاساً للقصر. وكان في داخل القصر وخارجه دِكاك عديدة من الطّين يجلس عليها طِيلة النهار جمهور غفير من رجال القبائل الزائرين وغيرهم مِمّن لهم حاجة عند الملك أو ديوانه. وكان كل عمل الديوان يتمّ في الطابق الأول من الجناح الشمالي، الذي كانت فيه غُرفة بلاط جلالته ومجلسه الخاص والعام وغُرفة للهيئة السياسيّة مكاتب أصغر حجماً لموظّفي الديوان. وكان أحد هذه المكاتب مُخصّصاً لعَمَلي. وكان هناك رُواق يؤدّي إلى مسجد القصر الواقع في الجناح الغربي. وكان فوقه قاعة يُصلّي فيها المَلِك وحدَه. وكان في الجناح الغربي، أيضاً، غُرف الملِك الخاصّة وأماكن للنساء العاملات في بيته وغالبيتهن من أفريقيا. وكان بعضهُنّ خادمات في القصر، وبعضُهُنّ زوجات للذُّكُور من الخَدَم. وكان من واجباتِهنَّ غسلُ الملابس وحملُ المبَاخِر لتبخِير ثياب الملك. وكان بعضُهنّ مسؤولات عن تشكيلات الملابس العديدة التي كان يرتديها في أوقات مختلفة. وكان جلالته يُحِبّ أن يُغيِّر ملابسه عِدّة مرّات في اليوم كُلّما خفّ عليه ضغط أعمال الدولة. وكان يرتدي، عادة، عَبَاءة بُنِيِّة في الصباح ورماديّة في الظهيرة وسوداء في الليل. لكنّه كان يرتدي الملابس البيضاء في يوم الجمعة الذي هو يوم مُقدّس لدى المسلمين.

وكانت أعظم معالِم القصر أبراجُه الأربعة، التي لم يكن الغَرَض منها دِفاعياً إلّا بِصُورة جُزئيّة. وكان كل واحد منها مَقَرّاً لزوجة من زوجات الملك. والواقع أن ثلاثة منها فقط كانت مشغولة في وقت واحد. أما الرابع فكان دائماً شاغراً للزّوجة الجديدة إذا ما رغب الملك أن يتزوج. وكان كلّما تزوج رابعة طلّق إحدى الثلاث الأُخريات ليظلّ عددهن ثَلاثاً. وكان يقضي ليلة مع كل واحدة منهنّ طِبقاً لأوامر الشرع بوجوب العدل بين الزوجات.

وحينما جئت إلى الرياض أوّل مرّة لم يكن القصر يحتوي على أكثر من التسهيلات البدائية التي لا بُدّ أن تكون في قصرٍ للحُكم قبل مائتي سنة أو أكثر. فلم يكن فيه ماء جار، ولا مجارِ متقدمة، ولا كهرباء. وقد كادت إحدى وسائل الترَف القليلة فيه أن تُسبّب موت الملك الذي أخفق كل أعدائه في القضاء عليه. فقد كان في غرف الملك الخاصة حمّام في داخله غلاّية (سمور) يُسَخّن ماؤها بالفَحم. وذات يوم لم يظهر دخان الفحم بطريقة سليمة؛ فغشي جلالته وكاد أن يموت لولا أن أدركت خادمة سريعة التفكير عدم وجود صوت في الحمام فدقّت جرس الإنذار فوراً.

ثم بدأت وسائل الراحة الحديثة تأتي تدريجياً من الحجاز إلى الرياض رغم معارضة الإخوان. وحين استولى الملك على الحجاز سنة 1926م كانت الطاقة الكهربائية هناك استثناء لا قاعدة. فقد تبرّع حُجّاج أثرياء من الهند والشرق الأقصى بمحطّات صغيرة لتوليد الكهرباء لإنارة الأماكن المقدسة وبعض البِنايات البارزة. وكانت هناك نُدرة مُزمِنة في قطع الغيار والمهندسين المَهَرَة لصيانة المولّدات الكهربائية. ولذلك كانت الكهرباء دائماً متقطّعة لا يُعتَمَد عليها. وفي سنة 1928م تقريباً كان لدى مسلم من بورما بُعْد نَظَر جعَلَه لا يتبرّع بالمولِّدات فحسب بل أرسَل مُهندِساً هندياً، اسمه محمد رفيق، لتشغيلها وصيانتها. وكان رفيق مهندساً قديراً جداً، فأصبَحَت المولِّدات بإشرافه تعمل بأفضل ما يُمكن من كفاءة. وقد أُعجِب الملك بعمَله فرأى أن الوقت قد حان ليكُون في الرياض تسهيلات مماثلة. وأرسَلَه من الحجاز سنة 1930م ليشتري مولّدات وآلات جديدة ويبعثها إلى الرياض لإنارة القصر الملكي. فاشترى ثلاث مكائن وأرسلها بالشاحنات إلى الرياض حيث وصلت إليها سليمة بأعجوبة. ثم قدم رفيق وبعض مساعديه بعد ذلك بقليل. وحين عاد جلالته إلى الرياض كان القصر يموج بالعمل. إذ كان رفيق ورجاله يحومون فيه كعناكب مجنونة يمدّون شبكة الأسلاك في كل أرجائه. وكان رفيق لا يتكلّم العربية. ولأني كنت أتكلم الأردية بطلاقة فقد كان يطلب مني أحياناً أن أترجم له فيه المواقف الحرِجة التي كانت تنجم خلال مدّهِ للأسلاك حول الغُرَف الخاصّة في القصر.

وقد أُفرِغَت حُجرة واسعة في الطابق الأرضي ليضع فيها رفيق مولّداته. وجاء اليوم العظيم الذي صارت فيه الكهرباء جاهزة للعمل. وكان الجميع ينتظرون اللحظة الباهرة بشوق. لكنها لم تحدث. وعندما حلّ الظلام أتى إليّ أحد خُدّام الملك وقال لي أن جلالته يريد أن يراني في غُرفة مكائن رفيق. فذهبت فوراً إلى هناك ووجَدتُ المسكين رفيقاً يحاول إصلاح المكائن والملِك بشخصيته العظيمة، واقف عنده ينتظر بدء إنارتها بفارغ الصبر. وقد حاول رفيق عدِّة مرّات تشغيل المكائن، ولكنّها في كُلّ مرّة تُعطي ضوءاً قليلاً ثم لا تلبَث أن تُحدِث صوتاً مزعجاً وتنطفئ. وكانت مَهمّتي أن أُترجِم أوامر الملك لرفيق بأن يُضاعِف جُهوده ليجعل المكائن تبدأ بالإنارة وتأكيدات رفيق المتكررة بأن كل شيء سيكون على ما يرام في بضع دقائق.

ولم يتمكّن المسكين رفيق أبداً من تشغيل مكائنه. فغادر الرياض بأسرع ما يستطيع وذيله بين ساقيه مدّعياً بأنه سيُحظِر قطعة غيَار من جدّة. ومرّت بقيّة السنة دون أن يعود. وحينئذ علمنا أنه أقنع ابن سليمان، وزير المالية، بأن يسمح له بالذهاب إلى مِصر ليشتري مكينة جديدة. وأخيراً عاد رفيق إلى الرياض سنة 1931م ومعه تلك المكينة الجديدة الغالية. ولُحسن حظّه استطاع دون مَشَقّة أن يُشَغّل الكهرباء، وأصبح القصر يزدان بأنوارها. أمّا الزُوّار من البدو الذين لم يروا هذه العجائب من قبل فكانوا كثيراً ما يسألون الملك عن ماهيّة الكهرباء وكيف تعمل. وكان يجيبهم إجابة من لا يريد مزيداً من المناقشة بقوله: “لا شيء. مجرد مكينة وأسلاك”.

وكان الملك نفسه هو الذي نظّم الديوان بالطريقة المُريحة التي سار عليها. وكان شعبتين، إحداهما تهتمّ بالشؤون الخارجية والثانية تُعنَى بالأمور الداخلية. وكانت هناك وزارة خارجية منفصلة عن الديوان ومكتملة النموّ. وكانت شعبة الشؤون الخارجية في الديوان مكوّنة من رئيس الديوان ورئيس المترجمين – وكنت حينذاك أحتل هذا المنصب – ومحرّر للرسائل وطابع على الآلة الكاتبة. وحينما توفي الملك سنة 1953م (1370هـ) لم تكن هذه الشعبة أكثر من ذلك. أما الشعبة التي كانت تُعنَى بالأمور الداخلية فكان لها رئيس وخمسة أو ستة كُتّاب. وكانوا قد وزعوا العمل بين ما هو خاصّ بحاضرة وسط الجزيرة العربية وما هو خاص بالقبائل البدوية. وكان هناك، أيضاً، بعض كتّاب صغار وموظف مسؤول عن دراسة العرائض المُرسَلة إلى الملك وتلخيصها. ومهما كانت لدينا من عيوب بصفتنا جهاز خدمة مدنيّة فإن البيروقراطية المفرطة لم تكن من بينها.

وحين التحقتُ بخدمة الملك لم يكن بين موظفيّ الديوان من يتسلّم راتباً منتظماً. كان جلالته يدفع لنا ما يراه بنفس الأسلوب الذي كان يدفع به لجنوده من البادية، وهو منحنا هدايا دورية من النقود والملابس وعند نهاية كل سنة كنا نستلم هدية إضافية من النقود. وبالإضافة إلى ذلك كانت أُسَر موظفي الديوان تُكسَى على نفقة الملك. ولم يكن ذلك الأسلوب مُتّبعاً في الحجاز لأن الموظفين هناك كانوا يستلمون رواتب منتظمة كما كانت عليه الحال زمن حكم الأشراف لها. ومع أن هدايا الملك كانت كريمة دائماً فإن أسلوب دفع رواتبنا قد جعل عمل ميزانية مصاريفنا من الأمور التي تحتاج إلى دِقّة فنّية. وذات يوم تقدّمتُ أنا وبعض زملائي في الديوان إلى الملك ورجوناه أن يدفع لنا رواتب منتظمة بدلاً من الهدايا والمنح، فوافَق على ذلك. وحُلّت هذه القضية بارتياح الجميع.

وعند وصولي إلى الرياض أُسكِنتُ غُرفة واسعة في القصر مع موظفين آخرين. وكان هذا الوضع غير مريح حتى وفقَ مقاييس الرياض. فذكرت ذلك للملك، وأمر باستئجار بيوت لنا في المدينة. فسكن كل متزوج بيتاً خاصاً، واشترك كل اثنين أو ثلاثة من غير المتزوجين في بيت واحد. ولم يمضِ وقت طويل حتى حدث ما جعلني أندم على انتقالي من القصر. فذات ليلة غادرت القصر مع بقيّة موظفي الديوان إلى بيوتنا. وكان الملك قد أمر أحد خُدّامِه بأن يُبَلّغَنا أن نُنهي رسائل معيّنة. لكن ذلك الخادم لسبب من الأسباب لم يتمكن من إبلاغنا أمر جلالته قبل مغادرتنا القصر. ومن هنا أرسل إلينا أحد الفتيان ليبحث عنها. فوجدنا بعد أن ابتعدنا عن القصر. وكان معنا رئيس الديوان الذي رأى وجوب عودتنا. ولم يكن ذلك أمراً سهلاً كما قد يبدو. ذلك أنّه كان لا يزال يوجد للملك أعداء كثيرون. وكانت هنالك تهديدات مستمرّة بالغدر والاغتيال. ومع أنّ أعداء الملك كانوا موالين له في الظاهر فقد كانوا لا يزالون مصدراً محتملاً للتمرُّد. ولم يكن جلالته يريد أن يعاني مصيراً مثل المصير الذي سبّبه هو لعجلان. ولذا كانت هناك حراسة مشدّدة على القصر ليلاً من قبل جنود الملك الزنوج الذين لم يكونوا يتساهلون مع الزوّار غير المتوقعين. وعدنا بحذر شديد إلى بوابة جانبية للقصر كنا ندخل منها عادة، لكن أحد الحراس منعنا من الدخول. وقد أوقف السيف الذي شهَرَهُ بوجُوهِنا أيّ مناقشة معه. ولذلك ذهبنا إلى البوابة الرئيسية. وهناك كانت لنا مناقشة طويلة مع حارسها الذي رفض، أيضاً، أن يدَعَنا ندخل. وفي أثناء ذلك كان الملك مع إحدى زوجاته في البرج فرأى عدداً من الناس متجمهرين عند مدخل القصر. ولاعتقاده بأن هناك مؤامرة وأن أعداءه يحاولون الدخول عُنوة التقط بندقيته وصوّبها إلينا. ولو أنّه أطلق النار علينا لكان من السهل عليه بالتأكيد أن يصيب عدداً منا لأنه كان بارعاً في الرماية ولأنّ بندقيته كانت ممتازة. لكن من حسن حظَّنا أنه قبل أن يضغط على زنادها سمع أصوات أحذيتنا ذات المسامير على الأرض الصخرية، وأدرك أن المتآمرين لا يمكن أن يُحدِثُوا مثل تلك الضجة. فأرسل إلينا خادماً ليعرف ماذا جرى. وحين علم جلالته بالأمر أخبرنا فوراً بأن نترك الرسائل حتى الصباح. وفي اليوم التالي قال لنا مازحاً أنه كاد يطلق علينا النار. وظلّت تلك الحادثة إحدى القصص المأثورة لديه عدة سنوات.

وكان الملك يبدأ عمله اليومي في القصر حوالي الساعة الثامنة صباحاً حيث يُقدّم له رئيس التشريفات، إبراهيم ابن جميعة، أسماء الذين يوَدّون مقابلته ذلك اليوم. وكان على كل من يرغب أن يرى جلالته أن يُرَتِّب ذلك مع إبراهيم، ولكنّ الملك كان من الناحية الواقعية يرى تقريباً كل إنسان يودّ مقابلته. وكان جلالته يبدأ بمقابلة من لدَيِهم أمور مُهمّة في مجلس خاص حيث يُقدِّمُون له واحداً بعدَ آخر طَبَقاً لأسبقيتهم ومكانتهم. فإذا أخَذَ عدد هؤلاء في التناقص بدأ بتصريف الرسائل اليومية. وكان من المألوف أن تراه يتحدث إلى أحد زعماء البادية وهو يُملي رسالتين في وقت واحد. وبعد ذلك يُعقَد مجلسه العام الذي يستطيع أن يحضره كل إنسان. وكان يضمّ، عادة، ما بين ثمانين وثلاثين ومائة رجل. وكان جلالته يبدأه بتلاوة آية من القرآن وتفسير لها. ثم يتحدّث عن موضوع ذي أهمية وطنية، ويطلب من الحاضرين أن يناقشوه فيما يودّون مناقشته. وكان الأمر يتم بطريقة أشبه ما تكون بالمؤتمر الصحفي إلا أنّها أقلّ رسمية. وكان للملِك قُدرة فذّة في فهم النقاط المُهمّة في أيّة قضية يُسأل عنها، كما كان قادراً دائماً على أن يُعطِي إجابة فورية كاملة بعبارات موجَزة مُختارة. وبهذه الطريقة كان كلّ إنسان يغادر مجلسه وهو مرتاح لأنه قد نال من جلالته اهتماماً شخصياً. ونادراً ما كان المجلس العام يدوم أطول من أربعين دقيقة، لكن كمّية العمل التي تُنجَز فيه كانت مدهشة.

وكان ابن جميعة، بعد انتهاء المجلس العام، يُحضِر إلى الملك قائمة بأسماء من حضروه فيكتب جلالته مقابل اسم كل واحد منهم عطاءه. ولم يحدث أنّ أحداً من هؤلاء ذهب صفر اليدَين. والواقع أن كمّية المواد الممنوحة كانت من الكثرة بحيث أن توزيعها كان يُنظَّم عن طريق المستودع المركزي في وسط مدينة الرياض. وغالباً ما كان في تلك العطايا شيء أكثر من مُجرّد الكَرَم. فقد كان من العادة أن يأتي جميع البدو الذين حاربوا مع الملك إلى مجلسه العام مرة كل سنة، وإذا احتاجوا إلى سكن ليلة مجيئهم إلى الرياض هُيِء لهم ذلك مجاناً. أمّا الهدايا التي كانوا يتلقونها فقد كانت في الواقع لقاء ما قاموا به من خدمة. وكان معدّل ما يُعطَى لكل بدَوي ثلاثة جنيهات ذهب وثوب و”غترة”. وإذا كان من مشائخ البدو الصغار أُعطِي ستّة جنيهات وثوباً من النوع الممتاز. وكان جميع البَدو لا يتركون جلالته إلا وقد مُنِحوا أكياساً من الرّز وسِلالاً من التمر وشيئاً من السُكّر والشاي والقهوة. وكان كلّ من أدّى خدمة خاصة للملك أو برَز في معركة من معاركه يُعطَى هدايا إضافية تعبيراً عن امتنان جلالته. وكانت هذه الهِبات الممنوحة لرجال القبائل مصدراً مُهِمّاً من مصادر دخلِهم السنوي. وكانت لذلك عاملاً كبيراً في ضمان ولائهم للملك.

وكان أفراد جيش ابن سعود القويّ، عادةً، يُموّنُون أنفسهم حين يذهبون إلى معركة أو يقومون بّأية غزوة. وان هذا الوضع ينطبق على الجنود المُقرّبين من الملك أيضاً. ولم يكن جلالته يحمل إلا تمويناً إضافياً تحَسُّباً للظروف الاستثنائية. ذلك أنّه كان يمُدّ جنوده من البدو طيلة العام بالأطعمة كالتمر والرُزّ والطَحين، إضافة إلى ما كان يعطيه إياهم حين يفِدُون إليه. ومن هنا فإنّه كان يستطيع عند الحاجة أن يجمع بسرعة قوّة كبيرة دون أن يُكلّف نفسه مصاريف إضافية.

وكان يطيب لقليل من البَدو أن يعودوا إلى الديوان مرّة أخرى خلال العام ليحصلوا على هداياه. لكن الكبرياء والحصافة تحُولان دون وفادتهم مرة ثالثة. ومع أن جلالته كان يدرك ذلك فإنّه لم يدَع أبداً إنساناً يغادره دون هدية. فقد كان بطبيعته أكرم رجل حتى لمن لم كن يستحق كَرَمه. وكان يُعتَبَر من خدش كرامته أن يغادر إنسان قصره صفر اليدين. ومع أن هذا الإجراء قد يبدو مماثلاً لبطاقة وجبة طعام مجانية لكل مواطن في المملكة فقد كان هناك فهم واضح غير مكتوب بين رعايا الملك بأن لا يذهب الرجل إلى قصره إلا إذا كانت له بجلالته حاجة معيّنة أو إذا كانت الزيارة تقليدية كالزيارة السنوية للبدو. أما أهل الرياض – مثلاً – فإنهم لم يكونوا يأتون أبداً إلى القصر إلا لسبب خاص.

ولم تكُن حركة الهدايا دائماً في اتّجاه واحد. فقد كان زُوّار الملك يُهدُون إليه أحياناً هدايا مختلفة. حسب رُتَبِهم وثرواتهم. كانوا يُهدُون إليه خيلاً وإبلاً وأغناماً، كما كانوا يُهدُون إليه أحياناً صُقوراً لأنّ حُبَّهُ للصَيد كان مشهوراً لدى الجميع. وقد تكون هذه الهدايا متواضعة أحياناً. إذ لا زلتُ اذكر أن بدَويّاً فقيراً أتى إلى مجلس جلالته حاملاً هراوة فرفَعَها فوق رأسه وصاح: “يا محفوظ. ما عندي ما أُقدِّمه غير هذه”. فسَألَه الملك أن يقترب منه، ومدَحَهُ بِبِضع كلمات وقَبِلَ هديّته. وكانت تصل إليه في المناسبات رُزَم من أصدقائه الأجانب والمعجبين به وأولئك الذين يبحثون عن الحظوة لديه. وذات مرّة وصلت إلى جّدة دون توقُّع شُحنة من الزيت بعَثَتها إليه الحُكومة السوفييتية. وكان للرُوس قُنصُل تجاري في جدّة منذ عهد الأشراف. وكانوا يأملون بنوع من السذاجة أن يُقنِعوا الملك في إنشاء علاقات دبلوماسية معهم. وكان جلالته سعيداً بتَسَلُّمِه الزيت، لكنّه رفَضَ أن يتعامل بأي شكل من الأشكال مع الحكومة السوفييتية. وكانت هناك هدايا أخرى ذات طبيعة شخصية مثل تلك الرُزمَة الصغيرة التي بعثها إليه طبيب ألماني يبدو من المؤكد أنّه قد أُعطِيَ معلومات غير صحيحة عن الاحتياجات الطبّية لجلالته. فقد كانت تحتوي على عُلبة صغيرة من حبوب تقوية الباءة.

وكانت فترة عمل الملك الصباحية تنتهي، عادة، بنهاية مجلسه العام. ثم يتناول غدَاءه ويستريح لدى أهله حتى أذان الظهر. وبعد الصلاة يجتمع بالشُعبة السياسية التي كانت وظيفتها إبداء المشورة لجلالته دون أن تكون لها أي سلطة تنفيذية. وكان بعض أعضائها رجالاً أقوياء ومُهمّين. وسيأتي مزيد من الكلام عنهم في الفصل التالي. وكان من الضروري أحياناً أن احضر جلسات الشعبة لأُترجِم ما يحتاج إلى ترجمة. وبذلك كنت أستطيع أن ألاحظ بنفسي الطريقة التي كانت تعمل بها تلك الشعبة. كان الملك يطرح الموضوع الذي يودّ أن يستشير الأعضاء فيه، فيناقش مناقشة عامّة يُبدِي خلالها كل عضو رأيه الحقيقي بحريّة ويقدّم ما يراه من اقتراحات. ثم يُنهي الملك المناقشة حين يظُن أنّه قد نال ما يستحق من نقاش ويتَخِذ قراره الخاص تجاهه. ولم يكن أحد من أفراد الشعبة أبداً يفكر في اقتراح موضوع للمناقشة بمبادرته الشخصية؛ إذ أنّ ذلك كان خاصّاً بالملِك وحده.

وبعد أن يُنهِي الملك اجتماعاته بمستشاريه يقوم هو وعدد قليل من حاشِيَته بجولة على السيّارة في ضواحي المدينة حتّى قُرب غروب الشمس. وكان جلالته يُحِبّ التجوّل في السيّارة. وكانت لذلك فائدته، إذ يتيح لشعبه أن يراه يومياً. وكان أحياناً يذهب مسافة قصيرة في الصحراء حيث يؤدّي صلاة المغرب قبل أن يعود إلى القصر لتناول العشاء. وكان أحد الأمكنة الأثيرة لديه في الصحراء تلاًّ – اسمه أبو مخزوق – ذا سمة مميزة، إذ يوجد في أعلاه قوس طبيعي متكوّن من الصخر ذاته. ومع نمو الرياض في السنوات الأخيرة أصبح هذا التلّ ضمن المدينة. ولأهميتهِ لدى الملك حوفِظَ عليه بعناية وجُعِلَ تذكاراً وطنياً.

وكان الملك يجلس بعد صلاة العشاء جلسة غير رسمية مفتوحة لكل الوجهاء وكبار الموظفين والزوّار البارزين. وتبدأ الجلسة، عادة، بقراءة إمام جلالته الخاص، عبد الرحمن القويز، جزءاً من السيرة النبوية لمدّة نصف ساعة. ثم يفتح المجال لمن يريد أن يطرح موضوعاً للمناقشة. وكان الجوّ السائد في جلسة الماء دائماً أكثر اتِّساماً بالانبساط والراحة من جوّ مجلس العمل الصباحي. وبعد فراغ الإمام من قراءته كان يُؤتَى عادة بإناء كبير مملوء بحليب النُوق فيشرَب منه الملك، ثم يناوله إلى ضيوفه فيشربون منه واحداً بعد الآخر. وحين يغادر هؤلاء الضيوف يقوم جلالته بجولة في الديوان حتى ينتهي غالباً عند الشُعبة السياسية حيث ينتظره مستشاروه لمناقشة بعض الأمور المهمّة. وقبل أن يذهب إلى غرفته الخاصة يقوم بزيارة أخيرة لمكتب ديوانه، ليرى إن كان هناك ما يتطلّب عنايته الشخصية. وكان مستعداً دائماً للاستماع إلى أيّة مشكلة لدينا مهما كانت صغيرة، وإبداء النصح والتوجيه. وكان عندنا دائماً من المراسلات الغريبة ما يتطلب عنايته الخاصة. فقد كان من عادة بعض الأجانب أن يكتبوا إليه طالبين إرشادُه في الأمور الدينية. وأذكر ترجمتي لكتاب ورَدَ إليه من أمريكيّ في شيكاغو قائلاً إنه لا يعرف شيئاً عن الإسلام ويرجو من الملك أن يفسّره له. وبتوجيه من جلالته كتبنا إليه جواباً ننصحه فيه أن يشتري ترجمة لمعاني القرآن الكريم. وكان هناك من يقترحون اقتراحات تجارية غريبة لينالوا من ورائها رعاية جلالته. وكان من هذه الرسائل ما يتعلّق بالحيوانات التي تُذبَح في مِنى خلال موسم الحجّ. فهناك من كان يريد شراء لحومها، ومن كان يودّ شراء عظامها، ومن يرغب في شراء جلودها. وكانت هذه الطلَبات تُرفَض دائماً لأن جلالته لم يكن يرغب في تحويل الحجّ إلى سوق تجارية. ولم يكن هناك نُقص في مقترحات من يريدون أن يُحسِّنُوا المواصلات في المملكة. وقد أتى أحد هذه المقترحات الغريبة جداً من رجل أراد أن يشتري سِكّة حديد كاملة بعَرَباتها، ويشحنها من الهند إلى الحِجاز لتُشَيَّد بين جدّة ومكة المكرمة. وكانت هذه نماذج قليلة من المشكلات التي قد نتباحث مع الملك بشأنها خلال ساعات الليل.

واستَمّر روتين ديوان الملك كما هو سواء كان جلالته في مكة المكرمة أم في الرياض. ولم يكُن عمل المرء في خدمة الملك بأية حال عملاً مُستقراً في المدينة دائماً. ذلك أن من سِمات الديوان الفريدة أن كل أفراده تقريباً كانوا يسيرون مع الملك أينما سار. ولم نكن نصحبه في ذهابه إلى الحجّ وعودته منه فقط، بل نُرافقه في كُلّ حمَلاته العسكرية وجولاتِه السياسية. وكان هذا شبيهاً إلى حدٍّ ما بوضع ملوك أوروبا في القرون الوسطى الذين كان رجال بلاطهم يصحبونهم في كل رحلاتهم. وكان عدد من يسافرون مع الملك من رجال الديوان الملكي حوالي اثني عشر كاتباً وستّة خُدّام. وكنّا نأخذ معنا كل التجهيزات المادّية من طعام وسلاح، كما كنّا نأخذ معنا كل السِجِّلات والأضابير والمراسلات الموجودة في الديوان. وكانت هذه تُشحَن في صناديق كبيرة من الخَشَب وتُحمَل على ظُهور الإبِل، ثُمّ على السيارات في السنوات الأخيرة. عبر آلاف من الأميال تتّجه مع قافلة الملك أينما اتّجهَت. وكان مُحتّماً أن تزداد صعوبة ترتيب هذه الكمّية من الأوراق كل سنة حتى صار حجمها أكبر من أن يُستَطاع التّصَرُّف به. ونتيجة لذلك أصبَحت الأضابير الأساسية فقط هي التي تُحمَل معنا. أمّا بقية الأوراق فتبقى في الرياض.

وكان يسافر مع جلالة الملك ثلاثة موظفين وثلاثة خُدّام من قسم رئيس التشريفات في الديوان، كما يسافر معه ثلاثة من خدَمِه الخاصّين ليعتنوا بملابسهِ ومتطلّباته الشخصية. وبالإضافة على هؤلاء كان يسافر معه اثنان أو ثلاثة من الطبّاخين الذين كان يساعدهم، عادةً، عدد من الجنود. وكان جلالته يأخذ معه حرَسه الخاص الذين كان عددهم يبلغ خمسين أو ستّين رجلاً من أُسَر الرياض المشهورة بولائها له. وكان يأخذ معه جماعة مسلّحة مُكوّنة من ثلاثين أو أربعين رجُلاً من حرَسِه السُود الموثوق بهم. وإلى جانب هؤلاء وأولئك كان يرافقه جنود آخرون. وبالإجمال كانت حاشية الملِك تشتَمِل على ما يقرُب من مائتي رجل مُسَلّح. وكان جلالَته لا يصطَحِب معه أيّة امرأة في حملاته العسكرية. ولكنه كان يأخذ معه إلى الحجّ بعض زوجاته وبناته وخدَمِهِن. وحين التحقت به سنة 1926م كان قد بدأ يستخدم السيارات بكَثرَة. وكانت هناك خمس عشرة أو عشرون سيّارة تحمل الملك ورجال ديوانه وبعض حرَسِه الشخصيين. أمّا بقيّة من يسافروا معه فيتبعونه على ظُهور الإبِل. وكانت لديه سيّارة مرسيدس رائعة مصنوعة لاستعماله الخاص. أمّا السيّارات الأُخرى فكانت خليطاً من سيّارات فورد وشيفروليت وبويك وهدسون. وكانت هناك سيّارتا فورد مخصّصتان لموظفيّ الشُعبة الخارجية في الديوان. إحداهما لرئيس الديوان واثنين من موظفيها، والأخرى لي أنا وثلاثة من زملائي، وكان عدد السيارات يزداد كل سنة. وحين تركتُ العمل في الديوان سنة 1935م كانت الإبِل قد اختفت من قافلة أسفار الملك، وأصبَحت هذه القافلة تتكوّن مِمّا يربو على خمسين ومائتي سيارة. ولم تكُن هناك طريق مُعبَّدَة بين الرياض ومكة المكرّمة. بل لم تكن هناك طريق مُعبَّدة في أي مكان من المملكة. وكان السَفَر يتم بمساعدة الأدلّاء المحلّيين الذين يعرفون أحسن الطُرُق عبر مناطقهم. وكثيراً ما كانت السيّارة تُصاب بِعُطل في تلك الظروف الصعبة. فكُنّا نأخذ معنا حوالي عشرة من الهنود أو الإندونيسيين الذين يُجِيدون قيادة السيّارات وهندستها. وقد أصبح هؤلاء خُبراء في الإصلاح المؤقت لها.

وكان لا بُدّ من الحوادث أحياناً. ولا زلت أذكر حادثة وقعت أثناء عودتنا من الهفوف إلى الرياض. فحينما وصلت السيارة التي كنت فيها إلى قمّة أحد الكثبان الرملية أدركنا ما أرعَبَنا وهو وجود منحدر حادّ جداً أمامنا. وانزلقت السيارة فوق الحافة وهبطت إلى أسفل الكثيّب. ومن حسن حظنا كان انزلاقها فوق رمل ناعم فلم يُصَب أحد بأذى خطير. لكن ذلك كان نهاية الطريقة بالنسبة للسيارة، التي أعتقد أنها لا زالت موجودة هناك. وتبلُغ المسافة بين الرياض ومكة المكرمة حوالي خمسمائة ميل. وكنّا نقطعها في خمسة أو ستة أيام. وحين أصبح الجميع يسافرون بالسيّارات صرنا نقطعها في أربعة أيام. وأذكُر أن عدد النساء اللواتي كُنَّ مع القافلة الملَكية سنة 1926م كان حوالي خمس عشرة امرأة كلّهن في شاحنة كبيرة، وقد يبدو ذلك أمراً غير مُريح. لكنّه تطوُّر عظيم بالنسبة لسفَرِهنّ على ظهور الإبل. وعند بداية سنة 1935م كان لكل امرأة سيّارة.

وكنّا إذا توقفنا ليلة في الصحراء أُقِيمَت خيمة كبيرة للملك يستقبل فيها من كان يصاحبه من أسرته أو مستشاريه. وكانت تقام بالقرب منها خيمة صغيرة تستعمل لخَدِمِه الشخصيين، كما تُستَعمَل مخزَناً للأطعمة التي يحتاج إلى طبخها. وكان كل إنسان ينام فوق الأرض في العراء على طريقة البدو. وكان الطبّاخون يُعِدُّون طعام الملك وحده. أما بقيّة من كانوا يسافرون معه فكان كل واحد منهم يحمل طعامه الخاص ويكمله باللحم وغيره مما يشتريه من البدو الموجودين في طريق القافلة. وكانت نيران المخيّم تلمع في الصحراء أثناء الليل بأحسن تقاليد هوليود الرومانتيكية. لكنّ ما كان أقل رومانتيكية منها لدغات حشرات الصحراء التي تجعل الحياة بالغة الصعوبة لأولئك الذين لم يعتادوا على النوم في الهواء الطلق.

ومن الجدير بالذكر أن الديوان المتنقِّل الذي كان أعضاؤه لا يتجاوزون ثلاثين رجُلاً كان قبل خمسين سنة فقط مسؤولاً عن الإدارة المركزية للمملكة العربية السعودية بكاملها. صحيح أنه كانت توجد دواوين صغيرة ثانوية تساعده في الحجاز، لكن الجهاز الإداري لبلادنا الكبيرة كان ضئيل الحجم. أما نجاحه العظيم فإنه عائد إلى صبر ومهارة جلالة الملك ابن سعود.

قائمة المحتويات