“لا تقومُ السّاعة حتّى تعود جزيرة العَرَب مُروجاً وأنهاراً”

حديث شريف


بتوحيد وسط الجزيرة العربية وظهور حكومة مستقرّة في المنطقة أصبح محتّماً أن يشرع عمالقة التجارة من العالم الخارجي في التساؤل عن الكنوز التي يُحتَمل أن تكون تحت رمال الصحراء بلاد العرب، ويعدّوا العدّة للسّماح لهم بالبحث عنها. وكان احتمال وجود زيت في البلاد معروفاً قبل ذلك. فمنذ سنة 1920م كان الزيت يُستَخرج في العراق وإيران اللّتَينِ تُشبِهان المملكة في الخصائص الجيولوجية.

وقد تمّ توقيع أول امتياز للتّنقيب عن الزيت في المملكة سنة 1923م (1342هـ). فقد استطاع مغامر نيوزيلندي اسمه ميجور هولمز، نيابة عن جماعة انجليزية تسمّى “أيسترن آند جنرال سيند يكبت”، أن يتّصل بابن سعود. وبعد شهور من المداولات غير المنتظمة مُنِحَ امتياز التنقيب عن الزيت والمعادن في منطقة الأحساء. ولم يكُن أحد يعرف حينذاك أن المنطقة التي يُغطّيها الامتياز كانت تحتوي تقريباً على كل احتياطي الزيت في المنطقة الشرقية الذي يعتمد عليه العالم بدرجة كبيرة في الوقت الحاضر. وكانت مُدّة الامتياز سبعين سنة يدفع صاحبه إلى ابن سعود كل سنة مبلغ ألفي جنيه ذهبي مُقدّماً وقد بدا الطرفان راضيين بالاتفاقية. فهولمز حصل على أفضل شروط وابن سعود كان سعيداً جداً أن يدفع له الأجانب ذلك المبلغ السنوي مقابل لا شيء. ذلك أنّه كان يعتقد بأنّ الله قد أنعَم على بلاده بالكثير من الرمال والقليل مِمّا سواه، أن أولئك الأجانب سيكتشفون عدم وجود زيت في البلاد. ولعلّه من الغريب أن الجماعة التي حصلت على الامتياز لم تُجرِ تنقيبات جديّة، وإنما بعد أن دفعت الإيجار لمدة سنتين بدأت تفقد الاهتمام بالموضوع، وتوقّفت عن دفع الإيجار ثلاث سنوات. وفي سنة 1928م أنهى الملك الامتياز. وكان في تلك المرحلة يعتبر هولمز مديناً له بمبلغ ستة آلاف جنيه ذهبي. وكان لهذا أهمية في قِصّة الزيت مستقبلاً.

ولم يحدث مزيد من الاتصالات للحصول على امتياز للتنقيب عن الزيت حتى سنة 1930م. وفي تلك السنة كان الملك يعاني مشكلة مالية شديدة. ذلك أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد سبّبت نقصان عدد الحُجّاج بدرجة كبيرة فهبطت واردات جلالته هبوطاً حادّاً. ورغم عبقرية ابن سليمان فقد أصبح الوضع خطيراً جداً. وواجه الملك صعوبة في دفع ديونه الأجنبية وفي صرف رواتب موظّفيه. ومع هذا فإني لا أظن أنه قد فكّر في استغلال الثروات المعدنية في بلاده حلاً لمشكلاته المالية حتى اتصل به المليونير الأمريكي تشارلز كرين. وكان كرين صاحب نفوذ كبير في أوساط رجال الأعمال في بلاده، كما كان وزيراً أمريكياً سابقاً في الصين وأحد الأمريكيين المعيّنين في لجنة كينج-كرين لدراسة موضوع سوريا وفلسطين سنة 1919م. وقد زار اليمن. ولذلك فإنّه كان على صلة بالشرق الأوسط. وقد نمَت لديه رغبة صادقة، وإن تكُن شاذّة أحياناً، في تقدُّم الدولة الناشئة في المنطقة. والواقع أنّه لم يكن مجهولاً لدى الملك. ففي شهر ديسمبر سنة 1926م ورَدت إلى الرياض برقيّة من جنيف عن طريق وزارة الخارجية في الحجاز، وكان نصّها: “إلى صاحب الجلالة الملك ابن سعود. إني مهتمّ بالجزيرة العربية وراغب في مقابلة جلالتكم إذا سمحتم لي بذلك. تشارلز كرين، صديق العرب”. وسواءً كان صديقاً للعرَب أم لا فإنّ الملِك لم يكُن لديه حينذاك أيّة فكرة عمّن هو كرين ولا عمّا يريد. ولم يكُن بالتأكيد لديه وقت لمقابلة كل أجنبي يرغب في أن يراه. ولذلك فقد أمَرَ وزارة الخارجية بأن ترسل إليه برقية الاعتذار المؤدّبة التالية: “ليس الوقت ملائماً لمجيئكم لأن جلالته مشغول بموسم الحجّ القادم وبقضايا داخلية”.

ولم ييأس كرين فأبرق ثانية من القاهرة سنة 1927م قائلاً إنه يودّ أن يرى الملك. ومرة أخرى لم يُعطِ تفصيلات عن سبب رغبته في الزيارة. وكان جلالته على وشَك أن يعود من مكة المكرمة إلى الرياض. فأُجِيب كرين بأن الملك على وشَكَ السَفَر وأنه ليس لديه، مع الأسف، وقت لمقابلته. لكن كرين كان ملحاحاً. فذهب إلى البصرة وأجرى ترتيبات للسَفَر إلى نجد بالسيّارة عن طريق الكويت. وقد استعان في ذلك بجون فانيس المُبشِّر الأمريكي في البصرة، الذي بعث معه أحد مساعديه الشُبّان ليقوده إلى حدود الكويت. وانطلق الرجلان في سيّارتين ومعهما أدلّاء عرَب وقليل من الخدَم. ومن سوء حظّهم أنّهم واجهوا – وهم يعبُرون الأراضي الكويتية – جماعة من الإخوان بقيادة ضيدان حثلين، فأُطلِقَت عليهم النار، وهربت السيّارتان بمن فيهما. لكنّ الشابّ الأمريكي أُصيب ومات بسبب ذلك. واضطّر كرين إلى أن يعود من حيث أتى. وحين بلغ الملك الخبَر غضب غضباً شديداً، لكن لم يكن هناك ما يمكن عمله. وقد أُعجِب جلالته بإصرار كرين ووافق على مقابلته بسرور. وكان كرين قد وصل حينذاك إلى القاهرة بعد أن أكمل وضع برنامج لبناء طُرُق وجسور في اليمن. وكان من السهل لذلك أن يُرتِّب معه زيارته لجِدّة في بداية السنة التالية.

وقد وصل كرين جدّة في شهر فبراير 1931م وسافر الملك إلى هذه المدينة لمقابلته. واستقبلهُ استقبالاً باهراً. فأقام له الحرَس والحاشية عرضة فخمة تلتها عرضة قام بها أهالي جدّة وبينهم الحضارمة الذين قاموا برقصات مؤثرة. ودُعي كرين إلى الكثير من الولائم، ومُنح شرف الإقامة في بيت الشيخ محمد نصيف الذي كان الملك حتى ذلك الوقت يسكنه إذا أتى إلى تلك المدينة. وظلّ كرين في جدّة حتى بداية شهر مارس. وأجرى عِدّة مداولات مطوّلة مع الملك وابن سليمان. وكانت أحلامه أن يرى في الجزيرة العربية مصانع عظيمة وسدوداً ضخمة وطرقاً واسعة وجسوراً باهرة يستطيع أن يشيّدها مهندسوه حين يبدأ استغلال ثروات البلاد. وقد استمع إليه الملك ووزير مالّيته بأدب، لكن ما كان مطلوباً حينذاك هو المال الذي يستطيع به جلالته أن يدفع ديونه الخارجية ومرتّبات موظّفيه. وعلى أية حال فقبل أن يتحقق حلم أي إنسان كان من الضروري أن يكتشف ما إذا كان في الجزيرة فعلاً معادن. وقد وعد كرين أن يوفِد مسّاحاً خبيراً للبحث عنها. واتفق على أن يدفع كرين مرتّب ذلك الخبير وأن يمدّه ابن سعود بما هو ضروري من طعام وسكَن ونقليات وحراسة. وقد أهدى جلالته إلى كرين حصانين عربيَين أصيلين. ثم غادر ذلك الأمريكي جدّة بمثل ما استُقبِلَ به من حفاوة وتكريم.

وبعد شهرين من مغادرة كرين وصل إلى جدة كارل تويتشل الذي كان مهندساً مدنياً وخبيراً باستخراج المعادن. وكان يعمل لكرين في اليمن، نكلّفه بالذهاب إلى السعودية ليقوم بالمسح اللازم المُتَّفق عليه. وتوجه تويتشل إلى عمله فوراً. وكانت مهمّته الأولى أن يزور المناطق المجاورة لجِدّة وعين العزيزية في التلال المحيطة بها ليرى ما يستطيع عمله لتحسين تجهيزات الماء للمدينة التي كانت تشكو من قِلّتِها. ثم سافر بمحاذاة شاطئ البحر الأحمر إلى كل من جازان وينبع ومعه مترجم اسمه أحمد فخري. وبعد ذلك سافر إلى نجد حيث اهتمّ، بصفة خاصة، بالمنطقة المحيطة بالرس ونفي. وقد وجد هناك تلاًّ صغيراً فيه عروق من الذهب وآثار قرية قديمة للتعدين. وكانت بعض المساكن المتهدّمة لا تزال تحتوي على بقايا أحجار كانت تستعمل في تفتيت الصخر المستخرج من التلّ. ورغم أنه قد بدا بأن الذهب كان لا يزال موجوداً بكميات مشجعة فإن تويتشل لم يرَ من المُجدي محاولة استخراجه لأنّ الطُرُق الحديثة تتطلب كمّيات من الماء أكثر ممّا كان متوفراً في المنطقة.

وبعد عودة تويتشل إلى جدة لفترة من الوقت سافر مرة أخرى عبر نجد إلى الأحساء. وكان معه في هذه المرّة نجيب صالحة ليترجم له. وأقام هناك شهوراً أعدّ خلالها تقريراً مفصّلاً عن كل ما رآه. وقد بذل اهتماماً خاصاً بواحات المنطقة. وأصبح متحمساً لجعل الصحراء تزدهر بواسطة الريّ. وكان من المعادن التي لاحظها في المنطقة كمّيات بارزة من الجبس قُرب الظهران. وبعد أن قضى في جزيرة العرب حوالي ثمانية عشر شهراً وجد أن التكوينات الجيولوجية في منطقة الظهران تشير بوضوح إلى احتمال وجود الزيت فيها.

وقد أخذ تويتشل تقاريره إلى الملك، وأوضح له ما يحتاج إليه للبحث عن الزيت وماذا سيحدث لو عثر عليه. وكان، مثل كرين، يتحدث بطريقة خيالية عن المدن والطرق البرّية وسِكَك الحديد والمطارات والمدارس والمستشفيات وغيرها من مظاهر الدولة الصناعية الحديثة التي يمكن أن تنشأ من ثروة الزيت. ورغم حماسة تويتشل فقد كان جلالته مرتاباً لأنه كان لا يزال يعتقد في قرارة نفسه بانّه لم يكن هناك إلّا صخور لا قيمة لها تحت صحرائه الجرداء. لكنّه وافق على أنّه إذا كان هناك زيت في بلاده فلا بُدّ من العمل لاستخراجه وبيعه. وكان الأمير فيصل، حينذاك، على وشك السفر لزيارة بريطانيا. وبناء على تعليمات الملك ذهبت إليه بنسخة من تقرير تويتشل. وخلال زيارته لتلك البلاد سلّم التقرير إلى حكومتها وعرض عليها، كما طلب منه والده، أن يمنحها امتياز الزيت في الأحساء. وبعد ذلك بوقت قصير استلم الملك برقية من سفارة بريطانيا في جِدّة تفيد بأن الحكومة البريطانية تشكره على عرضه لكنها ليست راغبة فيه.

وربما بدا غريباً أن يعرض ابن سعود امتياز الزيت على البريطانيين بعد أن وجد الأمريكيون مكانه المحتمل. ولعلّ ما هو أغرب من ذلك رفض البريطانيين للعرض. وفي اعتقادي أن السبب في توجُّه الملك إلى البريطانيين ربما كان نتيجة لشعوره بأنه مدين لهم لما قدموه إليه من مساعدات في الماضي، فظن أن عمله هذا قد يكون بمثابة رد للجميل. أمّا رفضهم للعرض فقد يكون سببه، بطبيعة الحال، مجرد الغباء.

لكني أظن أن مؤثرات أخي كانت تعمل عملها في هذا الموضوع. كنت أعتقد دائماً أنّه من المحتمل وجود اتّفاق غير مكتوب بين شركات الزيت العالمية وبين الحكومتين البريطانية والأمريكية على أن يسيطر البريطانيون على احتياطي الزيت شرق الخط الأزرق الممتد من شمال العراق إلى قَطَر وأن يكون للأمريكيين ما يقَع غرب ذلك الخط. وكان البريطانيّون، على أيّة حال، يسيطرون على إنتاج الزيت في إيران والعراق والكويت وقطر، وإلى حدّ ما في البحرين. وكان ذلك يفي باحتياجاتهم حينذاك. وكانت لهم مصلحة كبيرة في إدخال الأمريكيين إلى المنطقة لأن ذلك سيمنح هؤلاء فائدة اقتصادية في جزيرة العرب، وهذا بدوره سيشجّعهم على إقامة تحالُف عسكري مع البريطانيين للدفاع عن المنطقة تجاه الأعداء المحتمَلين لكلا الطرفين.

ومهما كانت الأسباب فإن البريطانيين لم يرغبوا في امتياز الزيت، وكانت خطوة ابن سعود التالية أن حاول الوصول إلى اتّفاق مع تويتشل نفسه الذي أصبح ذلك الملك معجباً به وواثقاً فيه. فطلب منه يوسف ياسين وفؤاد حمزة، نيابة عن الملك، أن يكوّن شركة زيت وطنية للحكومة السعودية على أن يكون له عشرة بالمائة من أرباحها. لكنّه رفض ذلك على أساس أنه لم يكن يرى المغامرة عملية. ومع ازدياد إعجاب يوسف ياسين بمهارة تويتشل التفاوضية رفع حصّته المُقتَرحة من الأرباح إلى خمسة عشر بالمائة ثُمّ عشرين بالمائة. وحين رفض تويتشل ذلك أدرك يوسف ياسين أخيراً أنه كان يعني ما قال من أنّ المغامرة ليست عمليّة. وفي ظنّي أنّ هناك سبباً آخر لرفض تويتشل، وهو أنّه كان مرتاحاً جداً من كونه مسّاحاً، ولم يكن لديه طموح خاص في أن يصبح من عمالقة الزيت. لكنّه كان، على أيّة حال، مستعداً لإعانة الملك، فوعَدَ أن يأخذ نسخة من تقريره إلى أمريكا ليرى إن كانت هناك شركة تهتّم بامتياز الزيت. وكان كل من في الديوان مسرورين بأن الأمريكيين من المُحتَمل أن يحصلوا على الامتياز لأنّنا كنّا نشعر أن سُمعة البريطانيين كانت لا تزال ملوّثة بسبب الاستعمار. فإذا أتَوا من أجل زيتنا فلن نكون أبداً واثقين من مدى امتداد نفوذهم على حكومتنا أيضاً. أمّا الأمريكيون فإنّهم سيأتون ببساطة من أجل الثروة، وذلك دافِع يقدّره العرَب ويوافقون عليه بوصفهم تُجّاراً بطبيعتهم.

وقبل أن يغادر تويتشل المملكة أتى إليَّ وأخبرني بأنّه لا يعرف من سيوجّه إليه رسائله من رجال الديوان، وقال بأنّه إذا وجد شركة مهتمة بالامتياز فإنه سيكتب إليّ، وسألني أن أترجم أيّة رسالة يبعثها وأقدّمها إلى الملك. وبعد حوالي شهرين من سَفَره استلمت رسالته الموعودة، فترجمتها وعرضتها على جلالته وحوّلها بدوره إلى ابن سليمان. وكانت الرسالة تفيد بأنّ تويتشل قد وجد شركة مهتمّة بالتنقيب عن الزيت، وأنّه مستعدّ للقدوم والتفاوض نيابة عنها. فكتبت إلى تويتشل أخبره بوصول رسالته. وبعد ذلك تبودلت رسائل بينه وبين ابن سليمان لم أطّلع شخصياً على أيّة واحدة منها.

ولا بدّ أن ابن سليمان دعا تويتشل إلى جدّة لأنّه بعد فترة قصيرة وصل إليها بصحبة رجل اسمه لويد هاملتون مندوب شركة “ستاندرد أويل أُف كاليفورنيا”. وقد أمر الملك ابن سليمان بتشكيل لجنة للتفاوض مع الأمريكيين. فقرّر الوزير أن يقوم بذلك مع الشيخ عبد الله المحمد الفضل والشيخ حسن القصيبي. وطلب مني جلالته أن أكون مترجماً مع اللجنة. وقد أقامت اللجنة في بناية البغدادي بجدة، وبدأت المفاوضات مع الأمريكيين مباشرة. وحين تقدمت المداولات المطوّلة الدقيقة اتّضح أن العَقَبة الأساسية كانت موضوع الدفعة الأولى التي ينبغي تقديمها من أجل الامتياز. وربّما أن الملك كان لا يزال يشكّ في وجود زيت في بلاده فإنّه كان مهتّماً بالحصول على دُفعة مقدّمة كبيرة مقابل حقوق التنقيب أكثر من اهتمامه بشأن العوائد المحتملة مستقبلاً. ولذلك كان ابن سليمان يطالب بقرض مقداره مائة ألف جنيه إسترليني شرطاً لمنح حق الامتياز، على أن يسدّد ذلك المبلغ – إن سُدِّد – من عوائد الزيت إذا استُخرِج بكمّيات تجّارية. أمّا الشركة فكانت تفكّر بدفع مبلغ أقلّ من ذلك بكثير؛ إذ لا يتجاوز خمسة وعشرين ألف جنيه إسترليني.

وبعد وقت قصير من وصول هاملتون وتويتشل إلى جدّة وجدا أنّهما يواجهان منافسة لم تكن متوقّعة. ذلك أن وفداً من شركة زيت العراق التي يمتلكها البريطانيون وصل إلى هذه المدينة برئاسة رجل اسمه لونجرج. وقد لحق بهذا الوفد الميجور هولمز ذاته بصُحبة مترجم أرمني. وكانت إقامة هولمز في جدّة قصيرة جداً. وقد صحبت ابن سليمان في مقابلته له. وكان الحديث خلال هذه المقابلة، من وجهة نظر هولمز، مختصراً إلى حدّ محزن. وقد أكدّ لنا بأنّه يُمثّل مصالح ميلون ومجموعة الخليج التي قال عنها بأنها شركة كبيرة جداً. كما أكدّ لنا، أيضاً، بأن صفقة رائعة، وإن تكُن غير محدّدة، يمكن التوصّل إليها مع شركته إذا مُنِح حقّ الامتياز. لكن ابن سليمان لم يتأثر بأقواله. وقد ذكَّره بأنّه لا يزال مديناً للحكومة السعودية بمبلغ ستة آلاف جنيه ذهبي نتيجة الامتياز السابق. وقال له بأنّه ما دام واضحاً بأن الاعتماد عليه موضع شكّ فإن عليه أن يدفع مبلغاً من المال قبل أن يبدأ أيّة مفاوضات. وقد ذكر مبلغ مائتي ألف ريال. لكن هولمز لم يكُن مستعدّاً لدفع ذلك المبلغ. ومن المُحتَمل أنّه كان خائفاً من أن يحتسب ذلك عوضاً عن الإيجار غير المدفوع من قِبَل شركة “ايسترن آند جنرال”. وفي اعتقادي أنّه كان يتوقّع أن يستطيع خداع الحكومة السعودية مرّة ثانية ويضمن امتياز زيت الأحساء لقاء مبلغ رمزي. وما أن أدرك أنّ هذا الأمر بعيد جداً حتى استقلّ أول سفينة تغادر جدّة ولم يره أحد مرّة أخرى.

أمّا وفد شركة زيت العراق الذي التقى به كل من فيلبي وابن سليمان فقد بقيَ في جدّة أطول ممّا بقي هولمز. وكان أعضاؤه يشبهون أبطال قصة “أليس إن ووندر لاند” حيث كان يتجوّلون في المدينة زائغي الأبصار يتنقّلون من مكان إلى آخر كمن ضيّع طريقه. ولم تكن تلك الشركة جادة في سعيها للحصول على الامتياز لأنها كانت، كما اتّضح فيما بعد، غير مستعدّة أبداً أن تدفَع مبلغاً يقرب مما دفَعه الأمريكيون بشأن القرض الأوليّ الذي كان الموضوع المهمّ للسعوديين. على أن هاملتون وتويتشل لم يكونا يعرفان حينئذ، وكان مجرّد وجود وفد من تلك الشركة قد جعل الأمر صعباً بالنسبة لهما؛ إذ لم يعودا المتسابقَين الوحيدَين في الميدان، فكانا قلقين من أن منافسيهما قد يستطيعون في أية لحظة أن يتغلّبوا عليهما.

وكان قد طلب مني أن أقوم بالترجمة بين تويتشل وهاملتون وبين لجنة التفاوض السعودية، كما ذُكِر سابقاً. ثم اشترك فيلبي فجأة في المفاوضات وحلّ محلي مترجماً للأمريكيين. ويبدو أنّه كان قد عُيِّن من قِبَل شركتهما لينضمّ إليهما في المفاوضات. وكان ذلك عملاً ذكياً من الشركة لأنّه لم يكن أحد يعرف أفضل من فيلبي العرض الذي يُحتمَل أن يكون مقبولاً لدى الملك. ولم أفهم أبداً كيف استطاع فيلبي أن يوفِّق بين مركزه باعتباره نفسه مستشاراً للملك وكونه وكيلاً مستأجراً لإحدى الشركتين العالميتين اللّتين تتنافسان على زيت جلالته. والواقع أنّه حين كان يتفاوض، نيابة عن الشركة الأمريكية، مع ابن سليمان، كان في نفس الوقت يتقابل مع وفد شركة زيت العراق ممثّلاً عن الحكومة السعودية. لكن مهما كانت دوافعه فإني أعتقد بأنه كان لا يزال حريصاً على مصالح الملك لأن النتيجة النهائية كانت مفيدة جداً لبلادنا.

وقد استمرّت المفاوضات مع الأمريكيين على غرار ما كانت عليه وكل من تويتشل وهاملتون يحاولان زحزحة ابن سليمان عن إلحاحه على دفع مبلغ مقدّم برسمهما صوراً وردية لما ستحصل عليه البلاد باكتشاف الزيت من منافع ورخاء. أمّا ابن سليمان فقد عاد مرّة بعد أخرى إلى النقطة البسيطة، وهي أنّ الملك يريد حلاًّ حاضراً مهما كانت الحلول المحتملة أو غير المحتملة مستقبلاً. وقد ساعد فيلبي على اجتياز العقَبَة حين قال لتويتشل: هؤلاء العرب لا يفهمون تفسيراتك النظرية والمثالية بشأن ما سيحدث في المستقبل. إنهم يريدون أن يعرفوا شيئاً ملموساً. ماذا سيحصلون عليه الآن؟. وعليك أن تعرض عليهم مبلغاً نقدياً وإلا فإنك قد تفقد الامتياز نهائياً.

وأخيراً اقتنع الأمريكيان بضرورة دفع مبلغ كبير من المال مقدّماً. وبعد كثير من المداولات الإضافية تم التوصُّل إلى اتفاقية مؤقّتة تقضي بإعطاء حق امتياز التنقيب عن الزيت في منطقة الأحساء إلى شركة “ستاندرد أويل أُف كاليفورنيا” لمدّة ستين سنة مقابل قرض مقدّم خالٍ من الفائدة مقداره ثلاثون ألف جنيه ذهبي، وقرض آخر مقداره عشرون ألف جنيه ذهبي يُدفَع خلال ثمانية عشر شهراً. وكان على الشركة أن تدفع إيجاراً سنوياً مقداره خمسة آلاف جنيه ذهبي وأن تعطي قرضاً مقداره خمسة ألف جنيه ذهبي حالما يُكتَشَف الزيت بكميات تجارية. وبعد ذلك تتسلّم الحكومة السعودية عوائد بمعدّل أربعة شلنات للطنّ الواحد من الزيت الخام المستخرج. وقد نوقشت هذه الشروط بين ابن سليمان والملك، وبناء على نصيحة فيلبي قرّر جلالته أن يقبل بها. فكانت توجيهاته إلى ابن سليمان، كالعادة، بسيطة ومباشرة: “توكل على الله ووقّع” ووقع ابن سليمان وهاملتون الاتفاقية في التاسع والعشرين من مايو سنة 1923م (4 صفر 1352هـ). وهكذا بدأ عصر الزيت العربي السعودي.

وبقيّة قصة الزيت معروفة جيداً. كان البحث عن الزيت غير مثمر في بداية الأمر، فخابت آمال الجميع سوى آمال الملك الذي لم يكن يتوقع أن يكتشف زيت في بلاده على أية حال. لكن في سنة 1935م ثَبُتَ من حفر تجريبي لبئر في الهران وجود زيت بكميات تجارية. وبمرور الزمن عُرِفَ الحجم الحقيقي المذهل لحقول الزيت. وقد بدأ الإنتاج سنة 1938م لكنّه انخفض إلى الصفر تقريباً خلال الحرب العالمية الثانية. ثم صعد بعد ذلك إلى الكميّات العظيمة التي تُنتَج في الوقت الحاضر. وقد أصبحت شركة ستاندرد أويل في بداية الأمر شركة زيت ستاندرد كاليفورنيا العربية. ثم أصبحت شركة الزيت العربية الأمريكية. أو أرامكو كما هي معروفة الآن عالمياً. وقد وجد الملك نفسه أغنى مما كان يتخيّل، واستطاع أن يستخدم ثروته الجديدة في إقامة المشاريع العامة من كل نوع لمصلحة شعبه. وهكذا نفذت، بقيادته الحكيمة، عملية النموّ السريع والتطوير فأصبحنا جميعاً ننعم بالثروة.

قائمة المحتويات