(من يَهدِ اللهُ فَهُو المُهتَدِ ومن يُضْلِل فلَن تَجِدَ لهُ وليّاً مُرشِداً)

سورة الكهف (17)


ترجع أصول حركة الإخوان إلى الدعوة الإصلاحية التطهيرية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر. وقد وُلِد ذلك المُصلِح في بلدة العيينة سنة 1703م (1115هـ)، ودرس العلوم الدينية على أبيه، الذي كان قاضياً للبلدة المذكورة والمتوفي سنة 1740م، وقد ساء ابن عبد الوهاب ما رآه حوله من انحراف عن الدين الإسلامي الصحيح، خاصة تلك الخرافات التي انتشرت بين الناس كعبادة الأضرحة وتقديس الأولياء، فأخذ يدعو إلى تطهير العقيدة مما لم يأمر به الله ولا رسوله، وأوضح أن عبادة غير الله ضَلال وكُفر.

وفي سنة 1740م اتصل ابن عبد الوهاب بالأمير عثمان بن معمّر ونال تأييده، لكنه توقف عن ذلك التأييد حينما عارض الحركة حاكم الأحساء سليمان بن محمد آل حميد. فاضطر المصلح إلى ترك العيينة واتّجه إلى الدرعية حيث رحَّب به أميرها محمد بن سعود. واتفق الرجلان على نشر الدعوة بكافة الوسائل. وقد أدّى نجاح الجهاد الذي تلا اتفاقهما إلى سيادة دعوة ابن عبد الوهاب في أكثر مناطق جزيرة العرب. وظلت تلك الحركة قوية حتى قضت عليها عسكرياً قوات محمد علي، حاكم مصر، سنة 1818م (1233هـ)، على أن روح الحركة ظلت حيّة، خاصة في منطقة نجد، كما أن قادة آل سعود ظلّوا يؤيدون مبادئ دعوة ابن عبد الوهاب كابراً عن كابر. وقد نشأ ابن سعود نفسه وتربى على تلك المبادئ، وبعد نجاحه السريع في الوصول إلى حكم البلاد أصبح المجال مفتوحاً لإحياء المبادئ المذكورة. وقد تمثل ذلك الإحياء في قيام حركة الإخوان.

في سنة 1912م كان ابن سعود قد أسس لنفسه دولة في صحراء بلاد العرب. لكن مصير تلك الدولة كان معتمداً على ولاء البادية المتغيّر سريعاً. وكان من المحتم أن تتفكّك دولته بمرور الزمن، كما تفكّكت دول عربية أقامها غيره، ما لم يجد طريقة يضمن بها استمرار ولاء القبائل له. ومن هنا برزت له فكرة ذكية جداً وهي إنشاء مستوطنات (هُجَر) يستقر فيها البدو ويعملون في الزراعة بدلاً من حياة التنقل والترحال. وقد أدرك أن تلك الهجر حينما تتأسس بصورة جيدة فإنه ستوجد لدى سكانها كل الأسباب التي تجعلهم يؤيدون حكومة قوية ثابتة تمكنهم من الزراعة بسلام وبهذه الطريقة يمكن القضاء على الفوضى التي كانت سائدة في الماضي. وكان ابن سعود يأمل أن يغرس عقيدة ابن عبد الوهاب في تلك الهجر حتى يرتبط ساكنوها به لا برباط الرغبة المشتركة في السلم فقط وإنما برباط العقيدة الدينية الجامعة أيضاً.

وكانت لكل قبيلة موارد مياه تعتبرها ملكاً خاصاً بها. وقد شجّع ابن سعود زعماء القبائل بالهِبات والمِنَح أن يبنوا بيوتاً سكَنيّة حول تلك الموارد. لكن رغم محاولاته المُضنِية لإنشاء هُجَر ناجحة فإن البدو كانوا متردّدين في قبول الفكرة. فحدثت عدة انتكاسات في هذا المجال. على أنه تغلّب عليها بكرمه الدائم من بذل المال وإعطاء الإبل وغيرها مما جعل رجال القبائل المتردّدين يقتنِعون بجدوى التعاون بالنسبة لهم.

وكانت الأرطاوية أول هجرة أُنشِئَت في إطار الخطّة المذكورة وذلك سنة 1913م (1331هـ)، وكان سكانها أول من سمّوا أنفسهم باسم الإخوان. ثم انتشرت الحركة بسرعة في وسط الجزيرة العربية، خاصة نجد. وعُيِّن علماء دين في كل هجرة لتعليم سكانها عقيدة ابن عبد الوهاب. وقد نجح هؤلاء في تعليمهم لدرجة أن الإخوان سرعان ما اشتهروا بتعصبهم الديني. ورغم أن إقامة الهجر من الأحداث الجوهرية الهامة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث فإني لم أجد تفصيلاً عنها في الكتب التاريخية التي قرأتها باللغة الإنجليزية إلا نادراً. وبما أن غايتي من هذا الكتاب ملء بعض الفجوات التي أهملها التاريخ فإني قد ذكرت قائمة بالهُجَر المهمّة والقبائل التي استوطَنَتها والزعماء الذين تولوا مقاليد الأمور فيها [1].

ولم يكن الهدف من هُجَر الإخوان مقتصراً على خلق استقرار سياسي وإنما تجاوز ذلك إلى غرض عسكري. فقد أصبح لدى ابن سعود، للمرة الأولى، احتياطي من رجال مستعدين دائماً للقتال تُعرَف أمكنتهم ويعتمد على ولائهم. ورغم وجود المنافع المادية التي يمكن الحصول عليها نتيجة الاستقرار فإن رجال القبائل لم يهجروا حياة الترحال بدون أسف. وكان يتردّد على ألسنتهم قول أحد شعرائهم بمناسبة بناء فيصل الدويش بيتاً من الطين في الأرطاوية:

زلّ الطـــرب والتَبدوي فات       من يوم فيصل بنى طينه

لا واهني من قرا النصبات       وبمصحف قد عــرف دينه

وكانوا قد افتقدوا، بوجه خاص، الغزوات التقليدية التي كان يقوم بها بعضهم على إبل وغنم البعض الآخر، والتي كانت أقرب إلى الرياضة منها إلى الحروب الحقيقية. وقد جعلتهم طبيعتهم القلقة وعدم تسامحهم الديني توّاقين إلى شنّ الحروب على الكفار. ولأن الكافر في عيونهم كان تقريباً كل من ليس من الإخوان فإن حركتهم أصبحت سلاحاً في يد ابن سعود يستطيع أن يشهره في وجوه أعدائه متى شاء.

ولم يكن لدى الإخوان أي خوف من الموت في الحروب؛ لأن الموت في المعركة هو الطريق المؤكدة إلى الجنة التي يعتقدون حق الاعتقاد بأنهم سيجدون فيها جداول المياه الباردة والنسيم العليل والنساء الجميلات وكل ما تشتهيه نفس البدوي ويهفو إليه قلبه. وقد ألقوا الرعب في قلوب كل رجال القبائل التي لم تكن تشاركهم عقيدتهم. وكانوا إذا تحركوا نحو الشمال الشرقي من الجزيرة العربية وتوغّلوا في العراق هربت القبائل من أمامهم عبر الفرات، وإذا اتجهوا نحو الشمال الغربي هربت القبائل الأردنية إلى سوريا، وإذا ساروا جنوباً لجأت قبائل اليمن إلى جبالها الحصينة التي يصعب اجتيازها. وكان استيلاء ابن سعود على كل من الحجاز وجبل شمّر بسهولة يرجع في الدرجة الأولى إلى جهد الإخوان. ولقد مرّ زمن في أواخر العشرينات من هذا القرن كانوا يسيطرون فيه على كل جزيرة العرب، وكان في استطاعتهم أن يضُمّوا أيّ جزء منها إلى دولة ابن سعود لو سألهم أن يقوموا بذلك. وقد كتب المؤرخ البريطاني المشهور، آرنولد توينبي، عدّة مقالات عن حركة الإخوان بين سنتي 1922 و 1924م، وتكهّن بأنه إذا استمر نموّ الحركة السريع فسوف تحتوي كل شباب الجزيرة العربية وما حولها. وقد يتسنّى لها أن تعيد التاريخ الأول للإسلام وأن تنفجر بزحفها على البلدان المحيطة بها في آسيا وشمال إفريقيا [2]. لكن هذا الأمر لم يحدث. ذلك أن الإخوان، بدلاً من تسخير قوتهم ضد أعدائهم الأجانب، اغترّوا بأنفسهم وجبروتهم وركزوا سطوتهم في الداخل فثاروا ضد سلطة حكم ابن سعود.

وكان الإخوان سلاحاً ذا حدّين، فمنذ بداية حركتهم كانوا مصدر متاعب بطريقة من الطرق. بل إنه لم يمضِ إلا وقت قصير من الاستيلاء على مكة المكرمة حتى تسبّبوا في إحداث قطيعة سياسية خطيرة مع مصر. فقد كان من العادة أن ينسج المصريون كسوة الكعبة من قماش جميل مزركش كل عام. وقد شهد صيف سنة 1925م أول موسم حج تكون فيه مكة المكرمة تحت حكم ابن سعود، وكانت تلك المدينة مليئة برجال القبائل من الإخوان الذين كانوا يؤدون حجَّهم لأول مرة. وكان المصريون حريصين على إيجاد انطباع جيد عنهم لدى الحاكم الجديد للبلاد المقدّسة. فرأوا أن يجعلوا المراسم التقليدية التي تصحب إحضار الكسوة إلى مكة المكرمة ذات أُبّهة خاصة في تلك المناسبة. وحملوها بقافلة باذخة عبر أبواب تلك المدينة تتقدمها فرقة موسيقية ويحيط بها حرس المحمل المصريون [3]. وكان أن استشاط الإخوان غضباً لأنهم، بما هم عليه من محافظة دينية متشدّدة، كانوا يعتبرون عزف الموسيقى علناً تدنيساً للحرمات. وطلبوا من الموسيقيين أن يُوقِفوا عزفهم، لكن هؤلاء شعروا بالإهانة فرفضوا طلبهم واستمروا في عزفهم. فهاجمهم الإخوان فوراً وأطلقوا عليهم النيران. ولم ينتج عن هذه الحادثة قطع المصريين علاقاتهم السياسية مع العهد الجديد فحسب بل إنهم رفضوا أن ينسجوا الكسوة بعد ذلك أبداً. ولهذا السبب أصبحت الكسوة منذ ذلك الوقت تعمل بأيدي عمّال سعوديين وهنود في مكة ذاتها.

وكانت الروح التطهيرية لدى الإخوان من العنف بحيث كانوا يعتبرون أي نوع من أنواع التقنية الحديثة شراً يجب تفاديه. ومن ذلك أنهم كانوا يعتبرون ساعة اليد من عمل الشيطان إذ لم يرد لها ذكر في القرآن، وكانوا يرون من المستحيل أن تعمل مثل هذه الآلة إلا بسحر. وهذا ينطبق على السيارات والتليفون وأجهزة اللاسلكي وأكثر الأجهزة التي كان الملك يحتاجها لإدخال التقدم إلى دولته. وحين التحقت بجلالته كانت الحكومة والخدمات العامة في مكة مجهزة في الغالب بالكهرباء والمكائن الحديثة. وكان فيها مكتب بريد متطوّر وخدمة تليفونية، أما في الرياض فلم يكن هناك أي شيء من هذا على الإطلاق وكانت الخدمة البريدية الرسمية الوحيدة خادماً يأخذ رسائل الملك المهمة إلى أمراء المدن الرئيسية ويعود بأجوبتهم على ظهر بعيره. وإذا كان في حالة نفسية مناسبة فقد يوافق على حمل رسائل الخاصة أحياناً. ولم تكن هذه الحالة كافية بالغرض. وكان من الواضح أن هناك حاجة ماسّة للمواصلات الحديثة. وكثيراً ما عبّر ابن سعود عن رأيه بأنه ليس كل شيء في الحضارة الغربية شراً. وكان هدفه دائماً أن يأخذ ما هو حسن من الغرب ويرفض ما كان سيئاً. لكن الإخوان لم يقتنعوا بسهولة. وكان ابن سعود مضطّراً باستمرار إلى إيجاد مختلف الطُرُق والوسائل لإقناع رعاياه بقبول المخترعات النافعة.

وكان يكفي لإقناعهم في بعض الأحيان أسلوب بسيط، كما حدث حينما أمر أن تُتلى آيات من القرآن عبر التليفون. فاضطر المستمعون إلى أن يوافقوا على أن الآلة التي تحمل كلام الله عبر أسلاكها لا يمكن أن تكون من عمل الشيطان. لكنه كان من الضروري اتخاذ موقف أشد صرامة عندما أُدخِل اللاسلكي إلى الرياض. فحين ارتفعت أصوات الاحتجاج على ذلك لم يوقفها إلى دعوة الملك الحازمة لكل من لا يوافق عليها أن يغادر المدينة.

لكن تلك الأمور كانت تافهة إذا ما قورنت بالأمور الخطيرة التي رفضها تعصُّب الإخوان. فقد قتل أحد هؤلاء رجلاً من أسرته ذاتها لأنه لم يتمسك بتعاليمهم الصارمة. وبالإضافة إلى ذلك كانت للإخوان سُمعة مؤسفة لعدم اتّباعِهم تقاليد الفروسية المتوارَثة عبر القرون في الحروب القبلية. فإشاعة قتلهم الأطفال والنساء في الطائف كانت مثالاً لما كانوا يُتّهمون به من وحشية. على أن سمعتهم المتمثلة في وحشيتهم في الحروب لم تكن مبنية على أساس لا يقبل الجدل؛ إذ لم يكن هناك سوى حوادث فردية بُولِغ في أمرها من قِبَل أعداء الملك. لكن لأن الإخوان كانوا متشددين في الأمور الدينية صدّق كثير من الناس ما كان يرويه خصومهم عنهم. وكان ابن سعود كثيراً ما يشعر بالحرج حين يرى الناس يعتبرون أفضل جنوده قتّالين لا رحمة لديهم.

لقد سبق أن ذكرت بأن بذور ثورة الإخوان بُذِرت حينما رفض ابن سعود أن يعيّن ابن بجاد والدويش أميرين في مكة والمدينة بعد الاستيلاء عليهما. فقد غضب الرجلان وانسحبا بأتباعهما إلى قلب نجد حيث ما لبثا أن شرعا في التآمر لإسقاط الملك. وكانا يدركان، بتجربتهما المُرّة، أن الثورة المسلحة ستكون وبالاً عليهما. فقررا أن يتخذا وسيلة أكثر مهارة. ومن هنا اتجها إلى العراق والأردن وأخذا، فجأة، بدون رحمة، يهاجمان مخيمات ونقاط حدود منعزلة. وكانا نادراً ما ضربا مرتين في مكان واحد. وتركا دماراً وتلفاً لدى مغادرتهما تلك المناطق. وكانت إحدى الهجمات الشهيرة على الحدود العراقية قد نفذّتها مجموعة كانت تابعة للقوات السعودية في حصار جدة. فقد هاجمت تلك المجموعة، بزعامة فيصل الدويش، مكاناً يسمّى إكلاوة كان يخيّم فيه بنو حسين من بادرة العراق. وكان ذلك المكان قرب بلدة الزبير. ومن الصدف أني كنت في هذه البلدة خلال زيارة قصيرة قمت بها من الهند. وقد أرادت السلطات العسكرية البريطانية في قاعدة الشعيبة أن تذهب إلى مكان الهجوم لتطّلع على الأضرار الناتجة عنه. وطلبت من أمير الزبير أن أذهب مع رجالها لأترجم لهم. لكني رفضت أن أصحبهم قائلاً: أني لا أريد أن أشترك في أي إجراء ضد الإخوان.

وكان لدى الإخوان ما يستطيعون أن يبرِّروا به هجماتهم على العراق. فقد أخذ العراقيون يحدُّون من دخول النجديين إلى بلادهم وبنوا خطاً من الاستحكامات على طول حدودهم مع نجد. وكانت أولى المخافر التي حصّنوها بصوة وبصيّة ثم أضافوا إليهما السلمان. فاعتبر البدو هذه الخطوات اعتداءات على حقوقهم التقليدية في حرية الرعي والانتقال غير المقيّد عبر الحدود. وكانوا على أية حال يعتبرون العراقيين كفاراً، ولذلك فهم صيد حلال على أن السبب الحقيقي لتلك الغزوات كان أمل الإخوان في أن السلطات البريطانية في كل من العراق والأردن ستعتقد أن ابن سعود نفسه كان وراءها فتعمل على الإطاحة به. وقد حقق الإخوان بعض النجاح في هذه الخطة. وظلُّوا يواصلون غزواتهم تلك لمدة ثلاث سنوات. وكانوا يخرجون في كل موسم عبر حدود العراق والكويت والأردن فيهاجمون أي قبيلة أو مجموعة من البدو يجدونها في طريقهم وينهبون المواشي ويقتلون أي إنسان يقاومهم وقد احتجّ العراقيون والبريطانيون بشدة لدى ابن سعود على تلك الغزوات، واعتبروه مسؤولاً عن أعمال أولئك الغزاة لأن معاهدة جدة سنة 1927م قد اعترفت به ملكاً للحجاز وسلطاناً لنجد. وكان ممثل بريطانيا في تلك المعاهدة السيد كلبرت كلايتون. وكان جواب الملك عن ذلك الاحتجاج أنه لم يأمر بتلك الغزوات ولا شأن له بها. ومع ذلك استمرت الحوادث. فانتقد ابن سعود الغزوات علناً في مناسباتٍ عديدة، لكن العراقيين والبريطانيين نظروا إلى موقفه بارتياب وأصروا على أنه لا بد أن يكون مؤيداً للغزاة أو على الأقل لا يريد بذل أي جهد لإيقافهم. وما زلت أذكر أن أعضاء في ديوان الملك نفسه كانوا يعتقدون أنه كان يعُدّ العُدّة للاستيلاء على العراق. لكن، كما اتضح فيما بعد، لم يكن لدى الملك مثل تلك النية. وفي ذلك الوقت تقريباً وجّهت الصحف العراقية كثيراً من الدعاية العدائية الموجهة ضد النجديين، وتعمّدت الإشارة على معركة سابقة هزم فيها النجديون على أيدي العراقيين. وقد أقرّ الملك بذلك، لكنه أضاف قائلاً: “دعوا البريطانيين يقفوا على الحياد وسوف ننهي الأمر بيننا بالقوة”. فتوقف العراقيون عند ذلك الحدّ، لكنهم أرسلوا وفوداً غاضبة إلى الرياض، وساد الجوّ تَوتّر عام من جرَّاء قعقعة السلاح.

وحينئذٍ أصبح واضحاً أن شيئاً ما كان لا بدّ أن يعمل لإيقاف الغزوات. وقد حاول الملك أن يؤثر على رجال القبائل بإعطائهم هدايا ثمينة، كعادته، لكنّ ذلك لم يفد كثيراً. فأعلن في كل المدن والقرى داخل حكمه بأن تلك الغزوات مخالفة لأوامره مخالفةً تامة. لكن ذلك أيضاً لم يؤدِّ إلى نتيجة مفيدة. وأخيراً أصبح واضحاً لديه سنة 1928م أن إجراءً حازماً يجب أن يُتّخَذ. فقرر أن يعقد اجتماعاً في الرياض يحضره كل الزعماء المؤثرين من علماء الدين ورجال القبائل في المملكة يهدف إلى إقناعهم بإعادة توكيد ولائهم له، ومن ثَمَّ عزل الإخوان الثائرين.

وانعقد في الرياض اجتماع أصبح يعرف باسم “الجمعية العمومية”. وفي الواقع أن سنة 1928م (1347هـ) لا تزال تُذكَر في جزيرة العرب بسنة “الجمعية العمومية”. وقد دعي إلى الاجتماع كل زعماء القبائل الكبيرة بما فيهم كثير من قادة الإخوان أنفسهم أو المتعاطفين معهم. كما دُعِي إليه كبار علماء الدين وأمراء المدن الكبيرة في المملكة. وكان مجموع هؤلاء حوالي خمسين ومائتي رجل من أعظم رجال البلاد. وخلال الأسبوعين السابقين للاجتماع الأخير كان زعماء الإخوان يصلون إلى الرياض مع أتباعهم في مجموعات صغيرة. وكانوا خلاصة رجال الصحراء المقاتلين إذ كانوا أشداء، محاربين، لديهم شعور عميق بالاستقلال. وكان الملك مشغولاً في التفاوض مع كل وفد، لكن رجال القبائل كانوا غير راغبين في التسوية. وكان “سلطان” الاسم الأول لابن بجاد، فسار أتباعه في شوارع الرياض وأسواقها وهم يهتفون بقولهم: “لقد ظهر للدين سلطان جديد”. وقد هزّ ذلك رجال المدينة فأجابوهم: “أنتم تدّعون أنكم مسلمون أنقياء، والمسلم لا يمكن أن يكون متكبِّراً مثلكم”. لكن الإخوان لم يخالجهم أي حياء في ذلك وردّوا عليهم بطريقتهم المعهودة: “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف”.

وحينما حان وقت الاجتماع ذاته لم تكن هناك غرفة كافية في القصر تتسع لكل أولئك الوافدين. ولذلك عقد الاجتماع، الذي كنت سعيداً بمشاهدته، في باحة القصر. وقد جلس العلماء عن يمين الملك، وامراء المدن والمناطق عن يساره، وجلس زعماء القبائل وممثّلوهم في وسط الباحة. وبدأ جلالته الاجتماع بإلقاء خطبة حماسية وبّخ فيها رجال القبائل المخالفين له وجعلهم مسؤولين عن محاولاتهم تمزيق المملكة بتصرّفهم العنيف الذي لا مبرّر له. وانتقدهم بازدراء بقوله: إنهم يتهمونني بإحضار الكفار إلى وطني، نجد. وأوضح استنكاره لاعتداءاتهم على الحدود العراقية وهجماتهم العنيفة عليها، ناهيك عن غزواتهم على قوافل وممتلكات القبائل التي لا تنتمي إليهم داخل المملكة. لكن المتعاطفين مع الإخوان لم يأخذوا ذلك الانتقاد باستخذاء. فقد قالوا إنهم لم يفعلوا إلا ما يقتضيه واجبهم الديني من مهاجمة الكفار وإعادتهم إلى العقيدة الصحيحة. ثم أثاروا احتجاجاتهم المعتادة حول مخافر الحدود العراقية. وبعد نقاش طويل سألهم الملك عما يريدون بصراحة. فأجابوا بأنهم يطالبون بأن تزال المخافر التي بُنيَت على الحدود العراقية، وان يُمنَع استعمال التليفون وغيره من الأدوات الشيطانية في المملكة، وأن تُعَاقَب القبائل التي يعتبرونها مشاركة، كجهينة وبلي، وتعاد إلى طريق الصواب، وأن تُنَفّذ أوامر القرآن بالقوة على الجميع بأقصى ما يمكن من الدقة وبدون استثناء. وعند هذا الحدّ قال جلالته ببراعته المشهورة في المناورة: “مع أنه لا توجد منطقة واحدة ولا قبيلة واحدة ولا مدينة بمفردها. بل ولا شبر من الأرض في كل أنحاء المملكة إلا وقد أخذته بسيفي في ميدان المعركة فإني مستعد للتنازل عن الحكم والتخلِّي عن جميع سلطاتي لأي رجل تختارونه بدلاً مني”. وحينئذٍ طغت الدهشة على كل المجتمعين واستبدّت بهم الحيرة. وبعد صمت قليل صاح جميع الزعماء الحاضرين بصوت واحد يعلنون احتجاجهم المخلص ضد فكرة استقالته. فاستفاد من الارتباك الذي أوجده والتفت إلى العلماء وسأل كل واحد منهم مباشرة عن رأيه فيه، حسناً كان أم سيئاً، وعما إذا كان معه أم ضده. ولم يكن من المستغرب أن حظي بإجماع العلماء على الثقة به وعدم تفكيرهم بإحلال أي رجل محلّه. وكرّر الملك تلك الأسئلة على أمراء المدن ثم على زعماء القبائل فكانت إجاباتهم مطابقة لإجابات العلماء. وبعد أن أقرّ كل المجتمعين بأنهم موالون له طلب من كل واحد منهم أن يجدّد البيعة له. فبايعه أفراد أسرته أولاً، ثم تلاهم العلماء، فأمراء الميدان، وأخيراً زعماء القبائل. وقد احتجّ بعض أمراء القصيم البارزين بأنهم سبق أن بايعوه منذ بداية حكمه، وقال أحدهم، وهو عبد العزيز بن سُليم أمير عنيزة: لقد بايعتك في الكويت. لكن الملك أقنعهم بأن تلك مبايعة جديدة. فبايعه كل منهم في نهاية الأمر، وفي ذلك الخضَمّ من قسم إعلان الموالاة نُسِيَت مطالب الإخوان ولم تحظَ بأيّة مناقشة بعد ذلك.

وبعد أن انفضّ الاجتماع عاد الأمراء وزعماء القبائل إلى أوطانهم حاملين معهم هدايا الملك السخيّة من سيوف وعطور وأموال وأطعمه، بل ومجوهرات لنساء بعضهم. وقد أعقب الملك نجاحه في الاجتماع بالسَفر إلى القصيم حيث قابل مرة أخرى مُمَثِّلي القبائل المخالفة له، وأعطاهم مزيداً من هدايا الأسلحة والمُؤن. ثم أقنع القبائل بأن توافق على عدم القيام بمزيد من الغزوات وعدم إثارة أي اضطرابات أخرى. وبعد أن قام بكل ما يستطيعه لإخضاع الإخوان بالطُرُق السلمية مضى في رحلته السنوية إلى مكة المكرمة لأداء الحج.

وكان الناس حينذاك يأملون أن يهدأ الإخوان لفترة معينة. لكن هؤلاء كانوا أكثر قوة من أن يهدؤوا طويلاً بفعل الهدايا والخطب. وما أن غادرهم الملك حتى شرعوا، مرّة أخرى، بالإغارة على الحدود بشكل أبعد عمقاً أشد خطراً. وقد دفعت تلك الإغارات العراقيين إلى اتخاذ إجراءات تأديبية قوية. وبمساعدة القوات الجوية البريطانية أخذوا يقصفون الغزاة من رجال القبائل. وكانوا في بعض الأحيان يتعقّبونهم إلى نجد ويقصفون مخيماتهم وموارد مياههم. وكانت إحدى هجماتهم على قبيلة مطير في اللصافة حيث أصيب عدد كبير من النساء والأطفال. فاضطر الملك إلى تقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية. ثم واصل محاولاته للتفاوض مع رجال القبائل، لكنهم كانوا يزدادون تعنتاً. كثيراً ما رفضوا مجرد المجيء إليه في الرياض. ولم يكن من غير المعتاد أن ترى أعداد كبيرة من الإخوان المسلحين يدخلون على هذه المدينة ويخرجون منها معلنين بصراحة عن قوتهم وعدم احترامهم لسلطة الملك.

وحينما تصاعدت قوة الإخوان أكثر فأكثر ازداد نفوهم في الحياة اليومية للناس العادين في المملكة لدرجة أن أولئك الذين لم يمرُّوا بتلك التجربة يصعب عليهم تصوّرها. وقُبَيل وصولي إلى الرياض أول مرة سنة 1926م جلد الإخوان علناً رئيس الديوان الملكي، وهو من هو في مكانته، بمجرد الشك في أنه لم يؤدّ الصلاة مع الجماعة. وكانت جماعات منهم تجوب الشوارع وتتصرف بوصفها شرطة دينية عيّنت نفسها لتعاقب كل شخص لا يتبع تعاليمها الصارمة. أمّا هم فقد تحلُّوا بأقصى ما يُمكِن من العزوف عن الحياة الدنيا، إذا حرّموا على أنفسهم كل متعة مهما كانت ضئيلة. وكانوا يحرّمون الموسيقى، كما سبق أن ذُكِر عند التعرض لحادثة المحمل المصري في مكة، وكانوا يكرهون الشعر والشعراء، ويصرّون على لبس الملابس الخشنة؛ إذ يعتبرون لبس الحرير بذخاً محرّماً. وكانوا لا يبيحون أي نوع من أنواع الحليّ. بل إن كثيراً منهم ذهب إلى أبعد من ذلك ورأى وجود إزالة الخيوط الذهبية المنسوجة في عباءاتهم. وكان من المحتمل أن يمسكوا بأي رجل يظهر وشارباه غير محفوفين أو ثوبه أطول مما هو معتاد فيوقفوه حتى يقصوا الزائد من شعره أو ثوبه. ولم يسلم ابن سعود نفسه من موقف كهذا الموقف. فقد قيل إنه زار مرّة محلّ فيصل الدويش في الأرطاوية فحيّاه مضيفوه بقولهم إن ثوبه كان أطول مما ينبغي، وجاؤوا بمقص فأزالوا منه ما زاد عن الحد المعتاد، والملك لا يزال مرتدياً للثوب.

وكان من الصعب جداً على قادم جديد مثلي، غير معتاد على ذلك النوع من التقشُّف الصارم، أن يبقى بعيداً عن المشاكل. ولسوء حظي كنت أدخن كثيراً قبل أن آتي إلى الجزيرة العربية. وكانت رؤية الإخوان لسيجارة في يد إنسان تعني جلده على الأقل. وكانت السجاير في جدة تباع في السوق السوداء. وبقليل من الحذر استطعت أن أنغمس في رذيلتي بطريقة سهلة. لكن الأمور كانت مختلفة تماماً في الرياض حيث كانت عيون الإخوان تترصد في كل مكان، وحيث كان لا يمكن الحصول على التبغ بأية حال. وكان لا يزال لديّ قليل من سجائر تمكّنت من الحصول عليها من سائق سيارة هندي. فأخفيتها في إحدى العوارض الخشبية من سقوف القصر، وأخذت أدخن واحدة كلما شعرت بأن لا أحد حولي. وعلى الرغم من جهودي في إزالة الدخان فإن الأنوف الحساسة للعلماء الذين كانوا يعملون في القصر قد اكتشفت الرائحة. ولم أتخلّص من ذلك الاكتشاف إلا بصعوبة. وبعد ذلك أقلعت عن التدخين. وكان ذلك بدون شك أمراً حسناً لصحتي وإن كان شاقاً على نفسي وأعصابي.

وفي بداية سنة 1929م كان من غير المستطاع السيطرة على الإخوان. فحوالي ذلك الوقت أقدموا على ارتكاب جريمة شنيعة حين هاجمت قوة منهم قافلة كبيرة للتاجر المشهور ابن شريدة، الذي كان في طريقه من بريدة إلى دمشق. وقد حاول ابن شريدة وعدد من رجاله أن يقاوموا لكنهم قُتِلوا وأُخِذَت قافلتهم. وتلا تلك الحادثة ما كان أسوأ منها. ففي اليوم الثاني عشر من شهر رمضان، والملك يتأهب للتوجه إلى الحجاز لأداء الحج، وردت الأنباء بأن اثنتين من أعظم قبائل الإخوان، عتيبة ومطير، اجتمعتا في شمال القصيم استعداداً للقيام بأعظم هجوم شامل على الأراضي العراقية. فأدرك ابن سعود عدم جدوى محاولاته إقناعهم بالطرق السلمية، وان الحركة التي أنشأها لنشر السلام والاستقرار في مملكته صارت أداة للعنف والفوضى. ولقد أصبح واضحاً كل الوضوح أنه يجب سحق الإخوان، وأن القوة يجب أن تواجَه بالقوة. فبدأ جلالته يستعد للحرب وقلبه مُثقل بالألم.


[1] انظر الملحق السادس من هذا الكتاب.

[2] كان يتوقع أن يحدث ذلك بعد توحيد البلدان المختلفة داخل الجزيرة العربية بطبيعة الحال.

[3] المحمل جمع حمل يوضع على بعير يرمز إلى السيادة.

 

 

قائمة المحتويات