(أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَأتِي الأرضَ نَنْقُصُهَا مِن أطرَافِهَا واللهُ يحكُم لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وهُوَ سَريعُ الحِسَابْ)

سورة الرعد (41)


كان ابن سعود حتى سنة 1930م قد اضطّر إلى خوض معارك كثيرة شرق وشمال وغرب نجد للدفاع عن مملكته وتوسيع رقعتها. لكن لم يسبق له أن حارب جنوبها. ولم يكن ذلك غريباً؛ إذ تفصل بين نجد وبين الدول الواقعة على البحر العربي منطقة الربع الخالي الواسعة التي لم يكن يدخلها إلا قليل من الناس، والتي لم يكن أحد يرى جدارة القتال من أجلها. لكن كان هناك عدوّ قويّ في الجنوب الغربي من جزيرة العربي متمثل في دولة اليمن. وكانت احتمالات الحرب مع ذلك العدوّ تزداد بازدياد نفوذ ابن سعود. ذلك أن حدود اليمن الشمالية كانت متاخمة للحدود الجنوبية من المملكة السعودية على شواطئ البحر الأحمر الخصبة المكتّظة نسبياً بالسكان. وبعد استيلاء ابن سعود على الحجاز وعسير بدأ النزاع بين السعوديين واليمنيين. وفي اعتقادي أن سبب ذلك كان عائداً جزئياً إلى عدم الثقة الدينية الناتج عن الاختلاف المذهبي بين الطرفين. فأحدهما يتبع المذهب السنّي، والثاني يتبع المذهب الزيديّ الشيعي. ومع أن الخلاف بين المذهبين لم يكن خطيراً من الناحية النظرية فإن كل طرف كان يعتبر الآخر مخالفاً للدّين الإسلامي الصحيح. على أنّه كانت هناك أسباب سياسية للعداء. فالإمام يحيى، ملك اليمن، قد اعتبر ازدياد نفوذ ابن سعود تهديداً لاستقلاله، وخاف أن يستولي على بلاده الصغيرة بالطريقة التي استولى بها على جبل شمّر والحجاز. وكان هناك كثير من ذوي النفوذ داخل نجد وخارجها يرون أن ضمّ اليمن إلى البلاد السعودية أمر منطقي ومرغوب فيه. وقد ظلّ فيلبي فترة يكتب مقالات يلمّح فيها إلى أنّ على الملك أن يضمّ اليمن إلى بلاده. بل إنّه صرّح في إحدى المقالات بأنه يودّ أن يرى جلالته يلبس التاج المثلّث لمكة والرياض وصنعاء. وبعد أن استولى ابن سعود على الحجاز بفترة قصيرة زاره في جدة الكاتب المشهور، أمين الريحاني، ليهنّئه بنجاحه في ذلك. وقد عبّر عن أمله القوي في أن تكون زيارته الثاني لتهنئته في عدن.

وكانت الفكرة العامّة في الديوان أن اليمن بلاد صعبة شاقّه يسكنها أُناسٌ أشداء، وأنّ الملك لن يكسب الكثير من ضمّها إلى مملكته الواسعة. وإنّي واثق بأن جلالته كان يرى ذلك الرأي. وأذكر أني حين أخبرته باقتراح فيلبي بشأن التاج المثلّث كان ردّ فعله الفوري رفض الفكرة تماماً. إذ قال: “إن اليمن ليست لي” ومع هذا فلم يكن الإمام يحيى ملوماً على قلقه، خاصة إذا نظر المرء ما حدث قُبَيل ذلك لإمارة جازان المجاورة له.

كانت جازان حتى أواخر العشرينات إمارة صغيرة مستقلة تجاور الحدود الشمالية لليمن على البحر الأحمر. وكان قصر أميرها في مدينة صبيا. فوقع خلاف بين هذه الإمارة وبين اليمن نتج عنه طلب أمير جازان من ابن سعود حمايته. فوافق جلالته على مساندة ذلك الأمير دون تردُّد، واقترح أن يرسل إلى جازان مفوضاً يساعده في شئون الحكم. وذهب المفوّض السعودي صالح بن عبد الواحد إلى هناك، وقام بالأعباء الموكولة إليه. وبعد ذلك واجه الأمير مشكلات مالية، فطلب من الملك أن يُقرِضَه مالاً. فوافَقَ جلالته على ذلك أيضاً، وأمدّهُ بِمُراقِبٍ ماليّ ليساعده في إدارة أمواله. ثم استبدل المفوّض الأول الذي كان لطيفاً متواضعاً، برجل أقوى منه. ولم يمضِ وقت طويل حتّى أصبح الأمر نفسه قليل المقدرة على البتّ في أمور حكومته. وقد أدرك بعد فوات الأوان ما كان يجري حوله، فجمع ما استطاع جمعه من قوّات وحاصر محل إقامة المفوّض. وبطبيعة الحال لم يكن أمام ابن سعود تجاه هذا التصرّف إلا أن يرسل تعزيزات عسكرية ويضُمّ جازان إلى مملكته. وقد تمّ ذلك بسرعة عظيمة ودون إراقة الكثير من الدماء. وكان تبريره ضعيفاً بالنسبة للعالم الخارجي. ولعلّه من الغريب أن أمير جازان هرب والتجأ إلى اليمن.

وبعد أن شاهد الإمام يحيى هذا المثال من دهاء الملك السعودي صمّم على أن لا تعاني مملكته مصيراً مثل مصير جازان. وقد رأى أن قليلاً من مظاهر الحرب هو السبيل الأمثل لإقناع ابن سعود بأن اليمن لا تريد أن تصبح جزءاً من أراضيه. وكانت الطريقة التي اختارها المطالبة بمنطقة نجران، الواقعة على حدوده الشمالية الشرقية، وبمنطقة جنوبي عسير الواقعة على حدوده الشمالية الغربية. وكانت المنطقتان قد أصبحتا، بعد ضمّ الحجاز وعسير، من أطراف المملكة العربية السعودية، وإن لم تكونا قد أُدخِلَتَا تماماً ضمنها. فكانتا تتمتّعان بنوع من الاستقلال القلق المضطرب تحت إدارة أمراء محليّين. وكانت حدودهما مع كل من السعودية واليمن غير محدّدة، وإن كانت الأولى تقول بأنهما جزء منها وكان ابن سعود من الحكمة بحيث لم يحاول أن يغيّر ذلك الوضع لأن جنوب عسير ونجران كانتا في الواقع منطقتين فاصلتين بين مملكته وبين اليمن. وكان واضحاً أن أيّة محاولة يقوم بها الإمام يحيى لتغيير الوضع الراهن حينذاك ستكون مصدر قلق كبير للملك.

ولقد زادت المشكلة تعقيداً تصرفات أمير نجران الذي كان يحاول أن يلعب دوراً خطيراً في الصراع السياسي. فقد سعى في أوقات مختلفة إلى التحالف مع السعودية واليمن وطلب العون من كلٍّ منهما وربما كان يُفكِّر في أن يضرب إحداهما بالأخرى لمصلحته الخاصة. وإذا كان هذا تفكيره فقد كانت حساباته خاطئة. فقد كانت النتيجة أن كِلتا الدولتين اعتبَرت نجران محميّة لها، وأن كلتيهما – خلال النزاع الذي تلا ذلك – لم تعر اهتماماً لادعاءات ذلك الأمير في الاستقلال.

وكانت مطالبة الإمام يحيى بنجران أول الأمر شفويّة. وقد بحث هذا الأمر بواسطة وفود من كلا الطرفين حاولت مسح حدود اليمن وتخطيطها بدقة. لكن جهود الوفد لم تثمر لأن تثبيت الحدود لم يكن يعتبر ضرورياً قبل ذلك أبداً، ولأنه لا يستطيع إنسان أن يحدّد مكانها. فحدثت منازعات لا نهاية لها حول جبل من جبال نجران. وأحال الوفدان اليمني والسعودي أمره أولاً إلى الإمام يحيى، فأعلن أنه يترك الحكم فيه لأخيه الملك عبد العزيز. وأُرسِلَت برقيّة من اليمن إلى جلالته بهذا المضمون. وكنت معه في رحلة صيد حينذاك. وكان جهاز اللاسلكي يصحبه أينما سار. وكان من واجبي ان أتسلّم البرقيات من مأمور اللاسلكي وأقدّمها إلى الملك. وحين جاءت تلك البرقية كان جلالته قد ابتعد عن المخيّم إلى مكان منعزل في الصحراء. فأخذتها فوراً إليه، وقرأها مبتسماً وهو يقول: “لقد طُلِبَ مني أن أحكم في النزاع حول الجبل” وبناء على أوامر جلالته أرسلت الجواب المختصر التالي: “أعلن من الآن أن الجبل لليمن”. وقد شاع هذا الخبر بسرعة في كل البلاد العربية. وكان عنوان إحدى الصحف المصرية: “الحق يتكلّم”. وبعد أن روت القصة الكاملة وراء ذلك القرار قالت: دعوا تلك القوى الغربية تعرف أولئك الذين يقولون بأن العرب ليس لديهم رجال دولة ولا سياسيون عظام.

لكن مِلكيةّ الجبل لم تضع حدّاً للخلاف حول نجران. فأخذت المفاوضات تطول وتزداد مرارة. وازداد التّوتر بين الطرفين حين قرّر الإمام يحيى بأن يساند دعواه بإرسال فصائل من قوّاته إلى نجران. وأخذَت الإبل اليمنية تدخل إلى مواقع القوات السعودية المرابطة هناك. فاحتّج السعوديون لدى الإمام على ذلك التدخُّل، لكنّه أصرّ على عدم سحب قواته. بل إنه أجاب على الاحتجاج بأن أرسل إلى الملك رسائل احتجاج مصوغة بعبارات ذات إفراط في بلاغتها. ولعلّه كان متّبعاً في ذلك المثل العربيّ القائل: إن من البيان لسحرا. وقد أزعجت الملك صياغة تلك الرسائل التي قصد الإمام بها، على ما يبدو، إظهار تبحّره باللغة، والتي كانت خالية من المعنى على أية حال، وزاد من غضب جلالته أن الإمام كان يسيء استخدام المسائل الدينية ليؤيّد دعواه بطريقة كان من الواضح أنه يقصد بها الإيحاء بأن الملك ليست لديه معرفة بالقرآن. ولم يكن مستغرباً أن ييأس جلالته من إيجاد حلّ سلمي للمشكلة بينهما.

وفي سنة 1932م حُلَّت قضية نجران حلّاً مؤقتاً عندما طردَت قوّة سعودية، بقيادة خالد بن لؤي، اليمنيين من المنطقة وضمّتها رسمياً إلى ابن سعود. ورغم أن ذلك كان نكسة خطيرة لليمن فإنّه لم يُخضِع الإمام يحيى، بل ضاعف جهوده للمطالبة بجنوب عسير وتدهورت العلاقات بين السعودية واليمن حتى سنة 1934م حين دخل الملك ذات مرّة الديوان وأخبر موظفيه بأنه رأى حلما الليلة البارحة. وقصّ عليهم ذلك بقوله:

“كنت في غرفة بيت قديم مهجور. وكانت الغرفة حالكة الظلام لا يُرى فيها بصيص من نور. وفجأة لاح لي في زاوية من زوايا الغرفة شبح على شكل أفعى تتلوّى وتتلمّظ وتحفّز للانقضاض. ثم انكشف فكّاها عن نابين كأنهما خنجران يقطران سُمّاً. فانتابني ذُعر بأنّهما سيلدغاني في أية لحظة ويفرغان سُمّهُما في دمي. فهجمت على الأفعى كلمح البرق وأمسكت بها من عنقها، وضغطت بأصابعي عليه بشدّة حتى تغلّبت عليها. وفي تلك اللحظة استيقظت وأدركت أن الخطر الذي كان قد أحدق بي مجرّد حلم. فحمدت الله على سلامتي”.

وقد تأثّر كلّ من سمع الملك يقصّ ذلك الحلم تأثُّراً عميقاً. ونحن العرب نعتقد بأن الأحلام يمكن أن تنبئ بما سيأتي وكنّا جميعاً نعرف قوى جلالته العقلية. فلم يشُكّ أحد منّا في أن ذلك الحلم قد أبان بصيرته على تأمّل المستقبل. وكان النزاع مع اليمن، حينذاك، قضية الزمن الحاضر. وكان هناك قليل من الشكّ في أن الإمام يحيى كان الأفعى المخيفة في الحلم. وحين غادر الملك الديوان ليتأمل فيما ينطوي عليه حلمه كان هناك تكهّن قلق حول ما سيفعله فيما بعد. وكان هناك إجماع عام على أنه سيهاجم اليمن.

وفي اليوم التالي قرّر الملك فعلاً بأنه ليس لديه بديل عن اللجوء إلى القوة، وكانت خطوته الأولى أن دعا جمعاً صغيراً من رؤساء القبائل الموالية له. وكانت الضربات الموجهة أخيراً إلى الإخوان، وإن كانت ضرورية لأمن المملكة، قد جعلته في حاجة ماسّة إلى محاربين مدرَّبين يعتمد عليهم. وكانت البطون الرئيسة من عتيبة ومطير في حالة ذلّة بعد الهزائم التي لحقت بها. ولذلك كانت القبيلتان ممثلتين ببطونها الثانوية. وكانت هذه قد ظلّت موالية للملك، لكنها كانت أقل عدداً من البطون الأخرى، ولم تكن لها شهرة مثل شهرتها من الناحية الحربية. على أن رجال القبائل كانوا يتفجّرون حماسة للمعركة القادمة. وكان يمثل عتيبة الروقة. وقد وقف رئيسها، عمر بن ربيعان، وصاح مخاطباً الملك بقوله: “يا عبد العزيز إن كنت تريد اليمن فاسمح لي بقيادة الهجوم. وتستطيع أن تبقى في مكة المكرمة أو الرياض وسآتي بها إليك”. لكن ابن سعود رفض عرضه في تولّي قيادة الجيش لأنه كان، بدون شك، يفكر فيما حدث بعد الاستيلاء على الحجاز حين طمع كل من الدويش وابن بجاد في حكمها لما قاما به من دور في السيطرة عليها. وكانت إجابته لابن ربيعان مختصرة واضحة، إذ قال: “لن تتحرك قبيلتك خطوة واحدة دون أمر منّي. وإني عيّنت ولديّ سعوداً وفيصلاً لقيادة جيوشنا. وستذهب أنت معهما”. على أن الملك قَبِلَ جُزءاً من نصيحة ابن ربيعان حيث قرّر أن يبقى في مكة المكرمة ويعطي أوامره إلى قوّاته من هناك بواسطة اللاسلكي. وقد جاء ذلك القرار مفاجِئاً لنا إلى حدٍّ ما لأنّ الملك، كان، عادَةً يقود جنوده شخصياً في الغزوات الكبرى. وحينما أعدت النظر في الموضوع اتّضح لي أنّه كان لدى جلالته سبب معقول جداً لاتّخاذ قراره السابق. فمن المُحتَمل أنّه لم يكن يرغب في ضمّ اليمن. بل كان يريد مجرّد إخضاع الإمام يحيى وتلقينه درساً لا ينساه. وكان يدرك أنه لا بُدّ من التوقّف قبل احتلال اليمن كلّها للتّوصل إلى حلّ سِلمي. وكان يرى أنّه من الأيسر عليه أن يُبدِي شهامة وهو بعيد عن ميدان القتال أكثر ممّا لو كان مشاركاً، شخصياً، في القتال وربما كان. أيضاً، غير مطمئن على الحجاز التي لم يمضِ على دخولها في حُكمِهِ أكثر من ثمان سنوات. ولم يكن أهلها كلّهم راضين بحُكمِه. وكان من المُحتَمل أن ينتهزوا فرصة غيابه مع جيشه ليثوروا ضِدّه. وانتهى المؤتمر. وذهب رجال القبائل، كما أُمِروا، ليأخذوا مواقعهم قُرب حدود اليمن وينتظروا أوامر جديدة قبل أن يقوموا بهجومهم. وكانت كلمات الملك الوداعية لرجاله هي ما كان يردّده دائماً قبل كل معركة: إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين”.

وفي محاولة أخيرة للسِلم بعث الملك إنذاراً نهائياً إلى الإمام يحيى واضعاً شروطاً معتدلة لتسوية خلافات الحدود المعلّقة ومهدّداً بالحرب إذا لم تُقبَل تلك الشروط. لكنّ الإمام تجاهل الإنذار. وفي الخامس من أبريل سنة 1934م عبَرت القوات السعودية حدود اليمن. وكانت الخطّة أن يشنّ الأمير سعود هجوماً من نجران على المنطقة الجبلية من شمال شرقيّ اليمن بينما يقوم الأمير فيصل في الوقت نفسه بالهجوم من الغرب عبر تهامة على الشريط الساحلي الموازي لشواطئ البحر الأحمر. وكان تقدُّم الأمير سعود بطيئاً منذ البداية. ولم يكن له أبداً أن يدّعي بأنّه قائد بارع. على أن المَهمّة التي أُسنِدَت إليه كانت عسيرة. وكانت المشكلة العظيمة هناك طبيعة البلاد الوَعِرة التي كانت كثيراً ما استدعت رفع وسائل النقل وإنزالها بالحبال فوق المُنحدَرات الشديدة. وكان الأمير أحمد، وليّ عهد اليمن، قائد القوّات اليمنية في تلك المنطقة. وقد جعل مركز قيادته في مدينة صعدة الواقعة على رأس جبل منيع. فلم تكن أبداً عُرضة لخطر استيلاء السعوديين عليها. وكان وليّ العهد، لسبب معقول، يسمَّى أبا جنّيّة. فقد كانت تستبدّ به موجات غضب جامح، وكان جنوده وخدمه يخافونه أشدّ الخوف. ويُروَى أنّه اعتاد أن يحتفظ بأفعى في سلّة بجانبه. ولم تكن هذه الأفعى خطرة لأن أنيابها السامّة قد خُلِعَت. لكنّ ذلك الأمر لم يكن يعرفه سوى الأمير. وكانت تُرمى فجأة على عُنُق أي زائر يضايقه.

ورغم هذه الظواهر الساديّة الشاذة، أو ربما بسببها، كان الأمير قائداً ناجحاً. وكان تحت إمرتِه جانب كبير من الجيش اليمني، فقادَهُ بمَهارة. وظلّت قُوّاتُه، على العموم، مُرابطة في مواقع حصينة في الجبال. وكُلّما قامت القوّات السعودية بهجوم ضدّها قاومَتها مقاومة عنيفة. وإذا تَعِبَ السعوديون شنّت القوات اليمنية عليهم هجوماً مُضَادّاً وأجبرَتهم على التراجع نحو السهل. وقد وصلت القُوّات اليمنية على معسكر الأمير سعود ونهبَته وقَضَت على ذخيرته ومُؤنَه وأحرَقت خيامه قبل أن تنسَحِب إلى قلعَتِها الجبلية. ونتيجة لهذه الهزيمة حاول الأمير سعود خطّة جديدة فبَعث قوّات تحت قيادة ابنيّ عمه فيصل بن سعد وفهد بن سعد وأمَرَهُما أن يتّجِها جنوباً ويُهاجِما السُفوح الشرقية للمنطقة الجبلية من عِدّة نقاط. لكنّ هذا الهُجوم فشِل فَشَلاً ذريعاً. وكان السعوديون أينما ذهبوا يضطرّون إلى تَسَلُّق حافات جبلية أشدّ وُعُورة من تلك السفوح الشمالية. وكان اليمنيون يصدُّون الهجوم دون أيّة صُعوبة.

ولم يكن من المُمكن وصف الحملة كلّها على المنطقة الشمالية الشرقية إلّا بأنّها فشل ذريع. لكنّها، على أيّة حال، خدَمت غرَضاً واضحاً، وهي أنّها أبقَت جانباً كبيراً من الجيش اليمني مُرابِطاً في الجبال. وذلك ما أعطى للأمير فيصل حُريّة نسبِيّة في التّحَرُك غرباً. وكانت حملة فيصل، على عكس حملة أخيه سعود، نجاحاً باهراً. ذلك أنّه انطلق من جازان وعبَر الحدود اليمنية مكتسحاً ساحل تهامة حتى واجَه فِرقَة كبيرة من قوّات العدو المُرابطة في مدينة حَرَض. واستطاع اليمنيّون أن يوقِفوا تقدّمه فترة من الزمن. لكنّه في نهاية الأمر خاض معهم معركة شاملة فهَزَمَهُم وانسَحَبَت فُلُولُهم بعد أن تكبّدوا خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. ومن سوء الحظّ أن القائد السعودي، حمد الشويعر، قُتِلَ في تلك المعركة. لكنّ النصر مَنَح السعوديين ما كانوا يحتاجون إليه من معنويات. ولم يواجه الأمير فيصل بعد معركة حَرَض أيّة مقاومة حقيقية، فاستطاع أن يتقدّم بسرعة عظيمة بمحاذاة البحر صوب الحُدَيدَة الميناء الرئيس لليمن. وكان يتغلّب على الجيوب القليلة العدد في طريقه دون صعوبة. وكانت بعض القوّات اليمنية تتّخذ مواقع لها فوق التلال الواقعة شرق خطّ تقدّم السعوديين. لكن فيصل لم يحاول الهجوم عليها، كما أنها لم تجرُؤ على مهاجمته في السهول.

وبينما كانت القوات السعودية تتقدّم إلى الجنوب دون مقاومة تُذكَر وصلَت أنباء إلى الأمير فيصل بأنّ الإمام يحيى استنجدَ بقُوى أجنبية عديدة لتساعده، وأن الإيطاليين قرّروا مساعدته وبعثوا قوّات عبر البحر الأحمر إلى الحُدَيدَة. وكان غَرَضُها، فيما يبدو، الاستيلاء على هذه المدينة ومنع السعوديين من دخولها. ولم يكُن الأمير فيصل لِيَدَع ذلك يحدُث. وكان ردّ فعله سريعاً ومستَلهمَا من التدريب الذي تلقّاه على يديّ والده. فأرسل فوراً طلائعه أمامه إلى الحُدَيدَة، وأمَرَ جيشه أن يتقدّم إليها بأقصى سرعة. ولأنّه انطلق بخطوات أسرع من بقيّة قوّاته وصل إلى ضواحي تلك المدينة مع مائة من رجاله حيث التقى بطلائعه عائدين منها. وقد أخبروه بأن اليمنيين انسحبوا منها، وأن عدداً من السفن الحربية الإيطالية على وشك إنزال قوّات لاحتلالها. ولِقلّة من كانوا معه أمام القوّات الإيطالية حثّه رفاقه على التراجع لكنّه لم يخسر سباقه مع الزمن، وكان مُصَمِّمَاً على أن لا ينهزم في اللحظة الأخيرة. فأمَرَ رجاله أن يتقدّموا فوراً إلى الميناء ويطلقوا نيرانهم على الإيطاليين قبل أن تُتَاح لهم فرصة النزول إلى البَرّ. وكان أن فعلوا ذلك. واعتقد الإيطاليون بأن السعوديين كانوا فعلاً يسيطرون على الميناء فانسحبوا بسرعة إلى مكان مأمون. وسُرَّ الأمير بهذه النتيجة، وأشار إلى السُفُن المُتراجِعة قائلاً لمن حوله: “انظروا. ربما لم أكن مجنوناً كما ظننتم حين أمرت رجالي بإطلاق النار عليهم”.

وكان سُقوط الحُدَيدَة، رغم محاولة التدخّل الأجنبي، ضربة قاصمة للإمام يحيى. وازدادت حاله سوءاً بسبب خطأ في اتصالات السعوديين. فقد أرسل الإيطاليون بعد انسحابهم من الحُدَيدَة برقيّة إلى إيطاليا بشفرة مورس. وكانت البرقية لسبب من الأسباب قد صِيغَت بالفرنسية، ومفادها أن الميناء في أيدي السعوديين وأن الإمام يحيى قرّر سحب قوّاته إلى عاصمته صنعاء. وكان ذلك صحيحاً. لكن مأمور اللاسلكي الذي التقط البرقية في جدّة فَهِمَ الكلمة الفرنسية decide بمعنى قرر على أنّها decede بمعنى مات. وكان هذا خطأ من السهل الوقوع فيه عند قراءة شفرة مورس. فاستنتج أن الإمام يحيى مات وهو ينسحب بقواته إلى صنعاء. وكانت تلك هي البرقية التي أُعطِيَت للصُحُف، وظهرَت في عناوينها في كل أرجاء العالم العربي.

وبدا انتشار قصّة موت الإمام المغلوطة كانت النهاية في مقاومته فجنح للسلم. ووافق ابن سعود على الهُدنَة. وظلّت قوّاته تُسيطِر على المناطق التي استولَت عليها والمفاوضات بين ممثّلي البلدين تجري في الطائف. وقد حثّت بعض الدول العربية الملك على أن يكون كريماً ويدع اليمن تحتفظ باستقلالها ضمن الحدود القائمة. وكان جلالته سعيداً بالموافقة على تسوية الخِلاف وِفق هذه الأُسس. وانسحبت القوّات السعودية بعد أن رضِيَ الإمام بدفع غرامة حربية مقدارها مائة ألف جنيه إسترليني إلى ابن سعود تعويضاً له على نفقات الحَملَة. ثم وُقِّعَت أخيراً معاهدة سلام بين الطرفين في مكة المكرمة. وأُنشِئَت لجنة حدود مشتركة استطاعت أن تتّفق على تعيين الحُدود دون متاعب. ومع أنّ ابن سعود كان قادراً على أن يُطِيح بالإمام يحيى ويستولي على اليمن بالقوّة دون صعوبة فإنّه لم يفعل ذلك، واكتفى بهزيمة حاكم تلك البلاد والتأكُّد من أنّه لن يستطيع بعد ذلك أن يُشكِّل تهديداً له. وهكذا تحقّق حُلم الملك كما رآه. ذلك أنّه لم يحلم بأنّه قتَل الأفعى، بل ضغط عليها بقبضة حديدية حتى أخضَعها.

وقد أثارت حرب اليمن حادثة درامية بعد سنة من تاريخ وقوعها. فبينما كان الملك يطوف بالكعبة وحوله الآلاف من الحجاج داهَمَه شابّان يمنيّان متعصِّبان بخِنجَرَيهما. لكنّ الله أنقَذَه بشجاعة ابنه سعود وردّ فعله السريع حيث جعل نفسه أمام أبيه ليجنّبه الطعنات. ومن حُسن حظّ وليّ العهد أنه لم يُصَب إلا بِجُرح بسيط في كَتِفِه. وأطلقَ حرَس الملك الشخصيوّن النار فوراً على أحد اليمنيين فأردُوه قتيلاً. لكنّ الآخر استطاع أن يهرب من خلال الزحام. وهكذا أُطلِقَت آخر رصاصة في حرب اليمن. وبفضل من الله لم يُصَب الملك بأي أذى بل إن الحادثة كان لها جانبها الإيجابي إذ كانت علامة لبداية فترة من التصالح بين اليمن والسعودية. ولم يتضِّح أبداً مَن الذي كان وراء محاولة الاغتيال. ذلك أن الإمام يحيى أنكرَ فوراً أن يكون له أي ضلع فيها. وكان في الحقيقة أوّل من بعث إلى الملك رسالة يستهجن فيها تلك المحاولة ويعبّر عن بهجته وارتياحه لسلامة جلالته.

قائمة المحتويات