(ومن يجعلِ الضِرغامَ بازَاً لصيدِهِ           تصيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تصيّداً)

المُتَنبِّي


عند نهاية الحرب العالمية الأولى أصبح واضحاً أن حائل لم تكن الجهة الوحيدة التي لا بدّ من مواجهة نهائية معها. فالشريف حسين بعد أن ألقى عن كاهله نير السيادة التركية بمساعدة البريطانيين أخذ يعاني من أوهام العظمة بازدياد، وبدأ يدّعي ادعاءات جوفاء بسيادته على كل دول الجزيرة العربية بما فيها نجد. ولم يكن أحد يعلم من أين استعدّ تلك السلطة وجميع تلك الدول كانت حينذاك مستقلة ولا تدين له بأي ولاء. وقد كتب الشريف رسائل ذات لهجة متعالية إلى عدد من حُكّام الجزيرة العربية، ومن ضمنهم ابن سعود، يقول فيها ما معناه إنه قد عزم على إنشاء دولة عربية – يكون بطبيعة الحال رئيساً لها – وسأل كل واحد منهم أن يعترف بسيادته عليه. وفي تلك الظروف كان جواب ابن سعود آية في ضبط الأعصاب فقد ردّ عليه، بوصفه نداً له، رداً مهذَّباً مشيراً إلى أن نجداً مستقلّة وأنه لذلك لا يسَعه أن يستجيب إلى طلبه. وعلى أية حال فإنه أبدى ثقته بأن نجداً والحجاز ستظلان تتعايشان بسلام بوصفهما جارتين صديقتين. ويقال إن الشريف لدى استلامه لهذه الرسالة الدبلوماسية جداً استبدّ به الغضب الجامح.

ولقد انصبّ النزاع بين الحجاز ونجد سنة 1919م على واحة الخرمة التي تبعد عن مكة حوالي مائة وعشرة أميال من الناحية الشرقية. كان الشريف يعتبر هذه الواحة جزءاً من مناطق حكمه. لكن أهلها كانوا يخالفون رأيه؛ فقد أعلنوا أنهم رعايا مخلصون لابن سعود. وفي سنة 1918م أرسل الشريف حملتين تأديبيتين ضد الخرمة، لكن الدفاع عنها في كلتا الحملتين تمّ بنجاح. فصمم الشريف على أن لا تقع أخطاء في المرة الثالثة. وفي سنة 1919م (1327هـ) جهّز جيشاً مكوناً من ثلاثين ألف مقاتل من بقايا جيش العهد التركي السابق ومن فرق من جيشه الخاص الذي حارب الأتراك مع لورانس، وجعل قيادته لابنه عبد الله. ويقال إنه لم يأمر ابنه بالقضاء على الثورة في الخرمة فقط وإنما أمره أيضاً أن يكتسح نجداً ويعبرها ليقضي فصل الصيف في بساتين الأحساء.

وكان جيش عبد الله مُجَهّزاً تجهيزاً ممتازاً بالنسبة لمقاييس الصحراء؛ لأن معظم معدّاته وأسلحته من المعدّات والأسلحة التي أمد البريطانيون بها الثورة العربية والتي كانت لا تزال في حوزة أبيه. ومع ذلك فقد بدا أنه لم يكن مستعجلاً في تنفيذ الأوامر الموجهة إليه. فقد أمر قوّاتِه أن تجتمع في أطراف مدينة تربة، وبعد أن حصّن معسكره ظلّ هناك والإمدادات تتوالى عليه دون أن يتحرك. ويبدو أنه قرر أن بساتين الأحساء يمكن أن تبقى أسابيع أخرى من دونه.

وكان لتأخر عبد الله في تحركه نتائج قاسية بالنسبة للحجاز. فبينما كان منتظراً في تربة وصلت أخبار تجمع جيشه إلى الرياض وسمع بها أحد ضيوف ابن سعود، الشيخ خالد ابن لؤي، الذي كان قريب النسب من الشريف ذاته. وكان ابن لؤي أحد زعماء قبائل جنوب الحجاز، كما كان عضواً بارزاً في جيش الأشراف. وكان الأمير عبد الله قد أهانه ذات يوم فترك الحجاز فوراً والتجأ إلى ابن سعود. وعند سماعه بتحرّكات عبد الله سارع إلى سؤال مضيفه أن يسمح له إمّا بإعداد جيش للدفاع عن نجد وإمّا بمهاجمة عبد الله بما يمكن جمعه في أقرب وقت من أبناء قبيلة عتيبة. ولم يكن الاقتراح بالاعتماد على قبيلة عتيبة وحدها في الهجوم اقتراحاً طائشاً كما قد يبدو لأول وهلة؛ ذلك أن كل المنطقة الممتدّة بين وسط نجد ومكة المكرمة لم تكن تسكنها سوى هذه القبيلة تقريباً. فإذا أمكن تعبئتها ضد الغزاة فسوف يتعيّن على عبد الله أن يتقدّم على نجد عبر منطقة معادية له كل العداء، وسوف يكون عُرضَة للمتاعب وقطع تموين إمداداته في أي وقت. وحين تقدّم ابن لؤي باقتراحه إلى ابن سعود لم يكن جيش الأشراف قد تحرّك فعلاً إلى داخل مناطق حكمه، لكنه كان يُشكِّل تهديداً لها فقط. ومن هنا فإن ابن سعود لم يشعر في تلك المرحلة بضرورة الاشتراك المباشر في أي هجوم ضد الشريف. فأخبر ابن لؤي أن باستطاعته أن يخطط وينفّذ ما يريد على مسؤوليته الخاصة، وأن لقبيلة عتيبة أن تنضّم إليه إن أرادت ذلك. وكان هذا الموقف من السياسة التي يلجأ إليه ابن سعود أحياناً، فيحصل من جرّائها على نتائج باهرة. ذلك أنها سَتُمكّنه من الاستفادة بأي نجاح يحرزه ابن لؤي ومن التّنصُل من عمله عند فشله.

وقد انضمّ إلى ابن لؤي سلطان بن بجاد، أحد رؤساء عتيبة وأحد زعماء الإخوان، فانطلقا سراً من نجد إلى منطقة تربة حيث يوجد جيش الشريف. وكانا يجمعان المقاتلين من قبيلة عتيبة وهما في طريقهما على تلك المنطقة. وحينما وصلا إلى حدود الحجاز كانت معهما قوة مكوّنة من ثلاثة آلاف مقاتل بينهم جماعات من الإخوان. ومع ذلك فقد كانوا لا يزيدون على عشر جيش الشريف. وكان من الواضح أنهم لن يستطيعوا الاشتباك معه في معركة تقليدية. ومن هنا قرّر ابن لؤي وابن بجاد مهاجمته بغتة أثناء الليل.

وما كان جيش الشريف، بتجهيزه وأسلحته وتحصيناته الممتازة، ليجد صعوبة في صدّ هجوم كهجوم أعدائه لو أن قائده كان قائداً كُفؤاً. لكن كان واضحاً منذ البداية أن عبد الله لم يكن جندياً. فقد كان هو وأبوه مبتدئين في فنون حرب الصحراء، وليست لديهما معرفة حقيقية بقبائل نجد ولا طُرُقها في القتال، ولم يكونا يقدّران أهمية وجود كشّافة يقظه دائماً لأي هجوم مثل ذلك الهجوم الذي كان مبيَّتاً حينذاك ضد جيشهما. كان الشريف حسين وابنه عبد الله من حُكّام المدن لا من حُكّام الصحراء. وكانا يُبدِيان تعالياً ونفوراً في تعاملهما مع زعماء البادية ورجال القبائل. وبالإضافة إلى ذلك كله كانا بخيلَين في تقديم الهِبات إلى البدو الزائرين. وكانا في ذلك مختلفين تماماً عن ابن سعود الذي كان كرمه مشهوراً في جميع أنحاء جزيرة العرب. ونتيجة لذلك كانت غالبية البادية معاديةً سراً وعلانية للشريف، ولم يكن هناك احتمال كبير أن يوجد بينهما من يرى جدوى إخبار الأمير عبد الله بتقدم عدوّه إليه. ومع ذلك فإن عبد الله قد أنذر بالهجوم الذي كان وشيك الوقوع. فقد قِيل أن امرأة كبيرة بالسن أوقفته عندما كان يريد دخول خيمته في تلك الليلة التي وقع فيها الهجوم وحثّته على أن يكون حذراً لأنها رأت حلماً بأن خطراً ما قد وقع غير بعيد من جيش الأمير. وكان أن استشاط عبد الله غضباً وأمر جنوده بطردها.

وحينما كان جنود عبد الله يطردون تلك المرأة من المعسكر كانت قبيلة عتيبة تحيط به بصمت وهدوء. وكانت الخطة التي وضعها ابن لؤي وابن بجاد مشابهة للخطة التي وضعها ابن سعود نفسه قبل ثلاثة عشر عاماً في معركة روضة مهنّا. فقد قسّما قواتهما المكونة من ثلاثة آلاف مقاتل إلى ثلاث مجموعات؛ اثنتان قوام كل منهما ثلاثمائة رجل وثالثة تشتمل على بقية القوات. وكان على إحدى المجموعتين الصغيرتين أن تأخذ طريقها على شمال المعسكر، وعلى الثانية أن تطوقه وترابط غربه. أما المجموعة الرئيسة فكان عليها أن تظل شرقاً عنه. وحين بات كل شيء هادئاً بعد منتصف الليل أطلقت كل المجموعات الثلاث النيران في وقت واحد على الجنود النائمين في المعسكر فاستيقظوا ليجدوا الرصاص ينهال عليهم من كل جانب. ومثلما حدث في روضة مهنّا خُدِعَ جنود الشريف فظنّوا أن المهاجمين لهم قوة هائلة، وأخذوا يطلقون النار في كل اتّجاه. وقد تسبّب إطلاق النار كيفما اتفق في نشوب معارك عنيفة داخل المعسكر بين جماعات من جنود عبد الله أنفسهم كانت كل منها تعتقد بأن الجماعة الأخرى من جيش العدو. ثم تحوّلت المجموعتان الصغيرتان المهاجمتان من مكانيهما وانضمتا إلى المجموعة الرئيسة وبدأ الجيش النجدي كله بمهاجمة جيش الشريف، وحوّل الاضطراب الموجود فيه إلى فزع تام. ثم فك اشتباكه مع ذلك الجيش وانسحب إلى نجد بأقصى سرعة ممكنة، تاركاً وراءه ناراً تلتهم نفسها بنفسها. وهكذا سحق جيش الشريف وفر من نجا منه إلى مكّة مُخَلّفاً في أرض المعركة مئات القتلى وكل ما كان لديه من مدافع وبنادق وذخيرة وعتاد. أما الأمير عبد الله نفسه، الذي أيقَظه الحادث المزعج بعد منتصف الليل، فقد كان مندهشاً ومرتبكاً إلى الحدّ الذي لم يستطع معه أن يعرف ماذا كان يحدث من حوله. وكل ما عرفه أنه قد هزم بطريقة ما، وأن عليه أن يهرب لإنقاذ حياته. وقد استطاع أن ينسلّ من المعسكر على بغل ومعه عدد قليل من خدَمِه المخلصين، واتّجه إلى الطائف فوصلها بعد ثلاثة أو أربعة أيام.

وكان عامل التليفون في مكتب بريد الطائف رجلاً اسمه أبو نصيف. وقد أخبرني أنه حين سمع بوصول الأمير مع حفنة من خدَمِه وأتباعه اتّصل تليفونياً بالشريف حسين في مكة وأخبره بوصول ابنه المنهزم على ظهر بغلته. فغضب الشريف لدى سماه الخبر، وبعد أن أبدى تعليقات لا يمكن أن تعاد هنا استشهد ببيت الشعر المشهور:

ألا ذهبَ الحِمارُ بأمِّ عمرو           فلا رجِعَتْ ولا رَجِعَ الحمارُ

وبعد الهزيمة المنكرة التي وقعت في تربة سنة 1919م أصبحت الحجاز معرّضة لهجوم آخر ضدها. وقد جاء ابن لؤي إلى ابن سعود يحثّه على أن يقوم بغزو فوريَّ لها. لكن ابن سعود رفض ذلك رفضاً باتاً. لأن الشريف كان لا يزال يتلقى مساعدة من بريطانيا، وكان أي تحرك ضده مغامرة خطيرة للغاية. وعلى أية حال فقد كان ابن سعود على وشك التحرك لمهاجمة حائل، ولم يكن في وسعه أن يوفّر الوقت والإمكانات لأعمال عسكرية أخرى. بل إنه بعد استيلائه على حائل كان، أيضاً، مشغولاً في أماكن أخرى بحيث لا يستطيع إشغال نفسه بالحجاز وقد أدّت حيطته، كما هي العادة، إلى نتائج مفيدة. فقد بدأت الأحداث في غرب الجزيرة العربية تتحوّل تحوّلاً واضحاً لمصلحته. ولم يمض وقت طويل حتى أُضيفت منطقة عسير إلى حُكمِهِ دون جُهدٍ تقريباً.

ومنطقة عسير تقع على البحر الأحمر جنوب الحجاز. وكانت في بداية العشرينات من هذا القرن تتمَتّع بنوع من الاستقلال الذاتي تحت حكم الأمير حسن بن عائض، الذي كان مقرّه في عاصمتها أبها. وكان حسن قبل ذلك بزمن قصير قد دعّم مركزه بهزيمته للإدريسي الذي كان ينافسه في المنطقة. وكان انتصاره بسبب المساعدة التي كان يتلقاها من الشريف حسين. فأصبح ابن عائض متعالياً ومغالياً في الثقة بنفسه، وأخذ يتحالف مع الشريف بصورة مطردة، وحاول أن يقسو على كل معارضيه ويضطهدهم.

ولقد أساء ابن عائض الحكم على رغبات شعبه حين رمى بثقله مع الهاشميين. وكانت القبائل في عسير تنتمي إلى بني شهر وشهران وقحطان وعسير مع وجود جماعات من سبيع وعتيبة. وكانت كل هذه القبائل سلفية في معتقداتها الدينية. ولذلك فقد كانت تنظر إلى سكان المدن الحجازية بريبة وعدم ثقة، وكانت متعاطفة مع الدعوة الوهابية. ومع بروز الإخوان واتساع نفوذ ابن سعود أصبح من المتوقع أن تتطلع تلك القبائل إلى الرياض لا إلى مكة بحثاً عن القيادة والإرشاد. وفي سنة 1921م وفدت جماعة من زعماء القبائل في عسير إلى الرياض وشكت على ابن سعود من سوء المعاملة التي كانت تعانيها على يدي ابن عائض. فوافق ابن سعود على أن يتوسّط لهم عنده. لكن ابن عائض رفض أن يتناقش مع الوفد السعودي، واعتبر الفكرة كلها تدخلاً سياسياً لا مبرّر له في شؤونه الداخلية. ثم ضاعف من اضطهاده لزعماء القبائل، فاضطر كثير منهم إلى الهرب من عسير خوفاً على حياتهم.

وكان ابن عائض يهدف من تصرفاته إلى إغاضة ابن سعود. وكان أن اعتبر ابن سعود هذا التصرف إهانة لا يمكن التغاضي عنها. فبعث جيشاً كبيراً بقيادة عبد العزيز ابن مساعد إلى عسير في نهاية 1921م. وحين وصل ابن مساعد إلى منطقة بيشة عسكر هناك وبعث رسالة إلى ابن عائض يطلب منه أن يؤكد ولاءه لابن سعود. فما كان من ابن عائض إلا أن أجاب إجابة بسيطة مباشرة. ذلك أنه أرسل رسولاً ومعه حزمة صغيرة تحتوي على مشط من الرصاص. ولم يكن في الإمكان توجيه دعوة للقتال أكثر صراحة من ذلك. وما كان ابن مساعد الرجل الذي يرفض مثل تلك الدعوة. فتقدّم بجيشه فوراً إلى عسير. وفي وادي حجلة وجد جيش ابن عائض متحصناً في مواقعه الدفاعية بقيادة محمد بن عبد الرحمن بن عائض. وكانت نتيجة المعركة التي دارت هناك هزيمة ساحقة للقوات العسيرية، التي انسحبت إلى أبها حيث كان حسن بن عائض يعمل بجد لإصلاح استحكاماته الدفاعية. وكان فقدان الروح المعنوية بين الجنود العسيريين كبيراً لدرجة أنه حين بدأت القوات السعودية تتقدم نحو أبها هرب كثير من أفرادهم بأسلحتهم وعتادهم، ولم يبقَ إلّا قوة ضئيلة مرتعبة تدافع عن المدينة. وحينذاك أحسّ زعماء القبائل في المنطقة بأن نصر السعوديين قد بات وشيكاً. ولأنهم كانوا دائماً يُفضّلون الانضمام إلى الجانب المنتصر ليشتركوا في أية غنائم متيسرة فقد رموا بثقلهم مع ابن مساعد. وتم الاستيلاء على أبها دون صعوبة. ثم اضطر حسن بن عائض بعد أن زالت كبرياؤه على الاستسلام. فعامله ابن مساعد بلطف وأرسله مع أفراد آخرين من أسرته إلى الرياض. وهناك استقبله ابن سعود بالشهامة والكرم اللذين كان يبديهما دائماً لمن انتصر عليهم. بل إنه عرض على ابن عائض أن يكون أميراً له في عسير. لكن ابن عائض كان أشد صلفاً من أن يقبل ذلك العرض. ومع ذلك فقد سمح له بأن يعود إلى عسير حيث بقي هو وأسرته في قلعته الجبلية القديمة المسماة حمالة.

على أن ملحمة عسير لم تنتهِ تماماً عند ذلك الحدّ. ذلك أنّ ابن مساعد عيّنَ فهد العقيلي أميراً لأبْهَا. واتّضحَ أن العقيلي لم يتصرّف تصرُّفاً يجلِب إليه مودّة السُكّان. ولذا فإنّ القبائل سرعان ما حرّضَت حسن بن عائض على الثورة ضِدّه. فوافقَهُم على ذلك، وزَحَف على رأس قوّة كبيرة لمحاصرة أبها. ودافَعَت الحامية السعودية دفاعاً ضارياً عن المدينة، لكنها سقطت في نهاية الأمر. وجاء دور العقيلي ليؤخَذ أسيراً. وكان ردّ فعل ابن سعود على تلك الأحداث سريعاً، فقد أرسل قوّة كبيرة إلى عسير بقيادة ابنه فيصل. وبوصوله انهارت الثورة واستُولِيَ على أبها دون مقاومة تُذكَر. وكان فيصل حكيماً إذ عيّن أميراً جديداً، اسمه عبد العزيز ابن إبراهيم، أثبت أنه أكثر شعبية من سلَفِهِ لدى السكان. أما سيء الحظّ حسن بن عائض فقد وُجِدَ هو وأسرته أنفسهم مرّة ثانية أسرى في طريقهم إلى الرياض. وقد استقبله ابن سعود بحِلْمِه وكَرَمه العظيمين استقبالاً حارّاً وعفا عمّا قام به من دَورٍ في الثورة، غير أنّه في هذه المرة لم يسمح للأسرة أن تعود إلى عسير، وأذن لها – كما أذن لآل رشيد من قبل – أن تعيش في الرياض تحت نوع خفيف جداً من الإقامة الجبرية لكي يكون قادراً على مراقبتها مراقبة حازمة لكنها لطيفة.

وحين أتيتُ إلى الرياض كنت كثيراً ما أرى ابن عائض وابنه في السوق حيث كانا يعامَلان معاملة متساوية مع سائر رعايا ابن سعود.

ولقد قُدِّر لمنطقة عسير أن تنتعش تحت الحكم السعودي، فأصبحت ذات حظوة لدى الأمير فيصل الذي وجد أنه يستطيع دائماً أن يعتمد على صداقة وولاء سُكّانها. وقد منح رجال قبائلها مطلق الحرية في السفر والعمل في أي جزء آخر من البلاد السعودية، فانتهزوا تلك الفرصة ووجّهوا ما لديهم من نشاط وطاقات لمصلحتهم. وأصبح ينطبق عليهم المثل المشهور: “بشّر النخل بفلاّح جديد”.

ولأن استيلاء ابن سعود على عسير قد حدث بعد وقت قصير من معركة تربة فقد كان ضربة قاسية للشريف حسين. فقد أصبح السعوديون يحيطون به من الشرق والجنوب معاً وكان من المُتَوقَّع أن يكون الشريف في غاية الحذر من عمل أي شيء قد يثير ابن سعود. لكنه استمر في أفكاره المعهودة بشأن قوّته وأهميته، وظل يعتبر نفسه الزعيم الطبيعي للجزيرة العربية. وفي سنة 1924م ارتكب خطأً جسيماً أدّى إلى سقوطه. فقد كان السلاطين العثمانيون لمدة قرون يعتبرون خلفاء للمسلمين. وقد رأت الحكومة التركية الجديدة، التي استولت على مقاليد الأمور عند نهاية الحرب العالمية الأولى، أنّه لم يعد هناك داع لاستمرار الخلافة فألغتها. وكان أن حاول الشريف حسين فوراً ملء الفراغ فأعلن نفسه في احتفال مهيب خليفة للمسلمين. وكان ذلك العمل موضع استهجان المسلمين في كل مكان، خاصّة الإخوان الذين كانوا يعتبرون الحجاز مرتعاً للظلم والإلحاد.

وكان أن قام سلطان بن بجاد، بمبادرة شخصية منه، بإعداد جيش من الإخوان غالبيتهم من قبيلة عتيبة وقادهم عبر الصحراء لمهاجمة الشريف. ولم تكن تلك الحملة الخطيرة تحظى بمساعدة من ابن سعود. ولكن من المُحتَمَل أنّه كان يُباركها سِرّاً. ومرة أخرى أخذ جيش الأشراف على حين غرّة. ففي صباح أحد الأيام من شهر سبتمبر سنة 1924م (1343هـ) أخذت مجموعات استطلاعية لقبائل محاربة تراقب قلب مدينة الطائف من خلال مرتفعات الجبال المحيطة بها. وكانت الطائف، التي تبعد عن مكة بحوالي أربعين ميلاً، العاصمة الصيفية للحجاز. ولم يرْتَبْ سُكّانها برؤية أولئك المحيطين بها، بل ظنّوهم أفراداً من القبائل المحلية يرعون حيواناتهم في تلك الجبال. لكن هؤلاء كانوا في الواقع ينتظرون الفرصة المناسبة للاستيلاء على المدينة. وكانت في الطائف حامية عسكرية بقيادة الشريف علي بن الحسين لكن معظم جنودها كانوا معسكرين في قرية الهده القريبة منها. ومن المحتمل أن القلعة التركيبة القديمة الموجودة في الطائف لم تكن تضُمّ إلا قوّة رمزية للمحافظة على النظام والقانون بين السكان المحلّيين. وقد اكتسح الإخوان المدينة، التي لم تكن مرتابة على الإطلاق، بسرعة واحتلوها دون مقاومة تُذكَر. ثم مضوا في طريقهم نحو الهده وهجموا على الحامية الموجودة فيها بضراوة وكبدّوها خسائر فادحة.

وكانت التقارير التي أعلنتها حكومة الشريف للعالم الخارجي عن حوادث الطائف تنطوي على ادّعاءات بأن الإخوان تصرّفوا تصرُّفاً وحشياً، وأنهم قتلوا النساء والأطفال دون رحمة. وقد ردّد بعض الأجانب تلك الادِّعاءات في كتاباتهم عن هذا الموضوع كما لو كانت حقيقة لا جدال فيها. ولكني أعتقد أنه لا أساس لها من الصحة. وقد أخبرني أمير الطائف نفسه أنه لم يُقتَل أحد في المدينة سوى أفراد الحامية وبعض الأهالي الذين حاولوا المقاومة. ومن المُرَجّح أنّ المسؤولين الأشراف روّجوا تلك التقارير رغبة في الإضرار بسمعة ابن سعود والإخوان، وحرصاً على صرف الأنظار عن الهزيمة الكبيرة التي مُنْيَت بها قوات الحجاز. على أن نجاح تلك الدعاية المُغرِضة كان في حدّ ذاته ذا نتائج عكسية بالنسبة للأشراف. ذلك أن الحجازيين صدّقوها فدبّ الرعب في نفوسهم وانهارت معنوياتهم. وكان من أثر تلك الدعاية أن حرّم بعض علماء الهند الحج إلى مكة مدّة من الزمن.

ولم يمض وقت طويل حتى سقطت مكة المكرمة نفسها بأيدي الرجال الأشداء الذين سبق أن استولوا على الطائف. ولم تُبدِ مكّة المكرّمة أية مقاومة للغُزاة لأن الشريف حسيناً نفسه كان قد تركها وذهب إلى جدة. وبعد الاستيلاء على المدينة المقدسة بقليل قدم عليها ابن سعود في أكتوبر سنة 1924م لأول مرة في حياته. ولم يدخلها مَلِكاً فاتحاً وإنّما دخلها حاسر الرأس مرتدياً لباس الإحرام البسيط. وكانت معه قوات كبيرة من ضمنها فرقة من قبيلة مطير بزعامة فيصل الدرويش الذي كان أحد قادة الإخوان.

وفي أثناء ذلك تعقّبت طلائع المحاربين من رجال القبائل بقايا جيش الشريف الهارب، فاستولت على الرغامة وحاصرت مدينة جدة التي التجأت إليها بقية قوات الحجاز. وقد جرت مواجهات عديدة بين المهاجمين والمدافعين بين الرغامة وجدة، وكانت في غالبها سجالاً بين الطرفين. وكان يوجد في جدة بضع دبابات بدائية كان المدافعون يعلِّقُون عليها آمالاً كبيرة. لكنها حينما تركت أسوار المدينة أصبح مسيرها العطل أو الوقوع في أيدي المهاجمين.

وأخيراً وصل ابن سعود إلى ميدان المعركة وتسلم القيادة. وكان بدون شك قادراً على اقتحام جدّة من غير مجهود كبير لو أراد ذلك. لكنه آثَرَ الحكمة والأناة لِئلّا تُسفك دماء لا موجب لها من جراء الهجوم على هذه المدينة الذي كان يدرك أنها ستخضع له في نهاية الأمر. ومنذ بداية الحصار طلب وجهاء جدة من الشريف حسين أن يتنازل عن الملك لابنه علي. وكان جوابه على ذلك قول الشاعر:

مشيناها خُطىً كُتِبَتْ علينا                   ومن كُتِبَت عليه خُطىً مَشاها

فترك البلاد إلى العقبة، ثم ذهب إلى قبرص، فتُوفيَّ فيها بعد فترة وأُحضِرَ جسده إلى المسجد الأقصى حيث دُفِنَ هناك. وكان قد نُوديَ بابنه علي مَلِكاً على الحجاز فور مغادرته لها في أكتوبر سنة 1924م.

وكان حصار جدة أمراً ذا أهمية خاصة. فقد تحصّنت القُوّات السعودية في سفوح التلال الواطئة شرق المدينة مما أتاح لها أن تراقب ميناءها بدقة، ومَنَحها موقعاً دفاعياً ممتازاً في حالة أي هجوم عليها. وكانت التلال أبعد من مرمى المدافع الموجودة في جدة، فحاولَت حاميتها أن تتغلب على هذه المشكلة بأن وضعت مدافع على سطوح البيوت العالية، وأخذت توُجِّه نيرانها إلى القوات السعودية ليلَ نهار. ولسوء حظِّها لم تفلح محاولتها في إيصال النيران إلى تلك القوات، ولم تنتج إلّا إضعاف الأبنية التي كانت قد نصبت عليها المدافع وإزعاج أهل جدة خلال ساعات الليل. على أن الحصار لم يكن كاملاً على أية حال. فقد ظلّت السفن المختلفة تأتي إلى ميناء جدة وتذهب منه دون انقطاع. وكان من حكمة ابن سعود أنه لم يحاول أبداً أن يوقِف مجيئها وذهابها؛ إذ لو فعل ذلك لأثار تعقيدات دولية كان في غِنى عنها. ولم يكن من المُستغرَب في تلك الظروف أن يستغرق الحصار أحد عشر شهراً. وفي أثناء ذلك كانت هناك عِدّة محاولات للتّوسُط من أجل إيقاف الحرب أو الاستسلام بشروط. وكان أحد الوسطاء سانت جون فيلبي الذي أُرسِلَ مرّة أُخرى ليتَفاوضَ مع ابن سعود ممثلاً عن السطات البريطانية في مصر.

وبينما كان ابن سعود محاصراً لجدّة وضعت قوّاته الأخرى حصاراً على المدينة المنورة. وكانت فرقة صغيرة من هذه القوات بقيادة ابنه الأمير محمد، لكن غالبيتها كانت مُكوَّنة من رجال قبيلة مطير بزعامة فيصل الدويش. وقد سقطت المدينة من غير صعوبة في ديسمبر سنة 1925م في وقت لم تُبْدِ فيه جدّة أيّة علامة للاستسلام. وبدا للدرويش أن ابن سعود كان في حاجة ماسّة إلى تعزيزات جديدة، فأراد زعيم الإخوان الداهية أن يُحوِّل الموقف لصالحه. وكان ابن بجاد يعسكر خارج مكة المكرمة في منطقة تُسمّى المعابدة حيث كان يقطن فريق من قبيلته عتيبة. فذهب إليه واقترح عليه أن يتّصلا بابن سعود، ويطلُبا منه أن يجعل أحدهما أميراً على المدينة المنورة مقابل مساعدتهما المستمرة له في حربه مع قادة الحجاز. فوافق ابن بجاد على اقتراحه وانطلقا فوراً لمقابلة ابن سعود في مخيّمة في الرغامة حيث عرضا عليه اقتراحهما، لكن ابن سعود رفض الاقتراح رفضاً باتاً. فقد كان يدرك أنه من الأفضل عدم إعطاء هذين الرجُلين الطَمُوحَين المتشدّدَين مناصب في الحجاز حتى وإن فقد تأييد قبيلتي مطير وعتيبة. وكانت الاستجابة لطلبهما تعني حتماً الدعوة إلى ثورة ضدّه في المستقبل. وما أن ذاق الزعيمان مرارة رفض اقتراحهما حتى انسحبا بأتباعهما على نجد، ولم يشتركا في الصراع بعد ذلك.

وكان للحادثة المؤسفة في الرغامة أثراً كبير في المستقبل. فابن بجاد لم يأخذ معه كل قبيلة عتيبة حين ترك الحجاز. وكانت زعامته محصورة في الدرجة الأولى على برقا من هذه القبيلة. أما الروقة، الأصغر حجماً، فقد كان زعيمها عمر بن ربيعان الذي ظل شديد الإخلاص لابن سعود. وفي غضون سنوات قليلة أصبح ذلك الانقسام القبلي من الأهمية بمكان. فالروقة حافظت على تأييدها القوي لابن سعود بينما ظل امتعاض برقا بزعامة ابن بجاد ناراً تتأجج حتى تحول بعد فترة قصيرة إلى لهب في ثورة الإخوان.

وفي نهاية ديسمبر سنة 1925 (1344هـ) وصلت الهجمات المتقطعة على جدة إلى نهايتها حيث استسلمت تلك المدينة. وباستسلامها سقطت بقية مدن الحجاز، كينبع والمدن الشمالية، كما تسقط قطع الدومينه. ولم يمضِ وقت طويل إلّا وقد أصبحت منطقة الحجاز بكاملها في حوزة سلطان نجد من غير منازع. وبعد أن استسلمت جدّة ودخلها ابن سعود منتصراً طبق فيها سياسة حكيمة ملؤها التسامح والرحمة. فقد أخبر السكان أن في إمكانهم أن يعودوا إلى أعمالهم التي كانوا يزاولونها، كما طلب من موظفي الحكومة السابقة أن يبقوا في وظائفهم. وكان ذلك مما وفّر عليه مشكلة حل الجهاز الإداري زمن الأشراف وإحلال جهاز جديد محلّه، كما أنه أكسَبَه في نفس الوقت شعور الامتنان والولاء من جانب الموظّفين الحكوميين الذين احتفظوا بمراكزهم ومصادر معيشتهم.

وبعد أن رتّب ابن سعود الأمور في جدّة عاد إلى مكة المكرمة حيث سَعُدَ بأداء الحجّ للمرّة الأولى في حياته. وكان حتى سنة 1925م يُدعَى بلقبه الرسمي، سلطان نجد، كما كان يُدعى بألقاب أُخرى مثل الإمام والشيخ. وفي احتفال مؤثر عُقِد في مكّة المكرمة في العاشر من شهر يناير سنة 1926م (1340هـ) نودِيَ به أيضاً، ملكاً للحجاز.

 

الشيخ عيسى بن علي شيخ البحرين أول من آوى العائلة السعودية في منفاها عندما تركت الرياض سنة 1890 م. تصوير الجمعية الجغرافية الملكية

 

الشيخ مبارك الصباح شيخ الكويت (يجلس في الوسط) وابن سعود (إلى اليسار) وشقيقه سعد (يقف في الوسط) وباقي العائلة السعودية الذين حصلوا على ملجأ لدى الشيخ مبارك حتى استولى ابن سعود على الرياض سنة 1902م.
تصوير الجمعية الجغرافية الملكية

 

ابن سعود مع بعض اخوانه وأبناه قرب ثاج في المنطقة الشرقية حيث كان الأمير ابن سعود يخيم مع الكابتن شكسبير.
تصوير الجمعية الجغرافية الملكية

 

الأمير سعد بن عبدالرحمن بن سعود شقيق الملك. تصوير الكابتن شكسبير سنة 1911م. الجمعية الجغرافية الملكية

 

القصر القديم بالرياض من الخارج تصوير بوير فوتو

 

سور الرياض الخارجي وهو من الطين وتظهر بوابة الأحساء سنة 1912م. تصوير الجمعية الجعرافية الملكية

 

بوابة قلعة المصمك بالرياض، وتبين الخوخة التي دخل منها عجلان أمير ابن رشد، أثناء محاولة ابن سعود وأتباعه الاستيلاء على المدينة سنة 1902م. تصوير فينا

 

من اليمين: أحد الإخوان بلباسه الخاص سنة 1923م. في اليسار: إثنان من الاخوان في الكويت سنة 1926م.

 

حاكم أبها عاصمة عسير في طريقه إلى جامع أبها التي سقطت في ايدي السعوديين سنة 1921م. تصوير بوير فوتو

 

مدينة صنعاء عاصمة اليمن سنة 1920م. تصوير وكالة كيستون للصحافة

 

الشريف حسين بن علي في عمان سنة 1924م بعدما تنازل عن الحكم لصالح ابنه علي. تصوير جريدة التايمز

 

الأمير عبدالله بن الحسين الذي هٌزِم في تربة سنة 1919م. تصوير ماجنوم

قائمة المحتويات