وإنّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ فإن هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبُوا
(أحمد شوقي)
كانت إنجازات الملك عبد العزيز بن سعود الباهرة إنجازات رجل عظيم حقاً. فتوحيد أكثر مناطق جزيرة العرب في وحدة مستقرة منسجمة أبعد من أحلام أيّ ملك عادي. وكان من حسن حظ العرب أن الله جلّت حكمَته وهَبَهم مثل هذا الرجل في وقت كانوا في أمَسّ الحاجة إليه لتوحيد البلاد وإعدادها للقيام بالدور القيادي الذي نلعبه الآن في الشؤون العالمية. ذلك الدور الذي لم تكن أيّة كمّية من الزيت لتُمَكّنها من القيام به لو أن أراضيها بقِيَت مُمزّقة وشعبها ظلّ متفرقاً. وإني لآمل أن أعطي في هذا الفصل تحليلاً للعوامل التي جعلت ابن سعود ينجح نجاحاً فريداً بوصفه رجلاً وبوصفه مَلِكاً.
لقد كتب الكولونيل تي. إي. لورانس في سنة 1935م كتابه المشهور عن تجاربه في الجزيرة العربية بعنوان “أعمدة الحكمة السبعة”. ويبدو لي أن عنوان هذا الكتاب ملائم إلى أقصى حدّ لوصف شخصية ابن سعود التي كانت، في نظري، مبنية على سبعة أعمدة أنشأ عليها مملَكَته من لا شيء. وأوّل هذه الأعمدة الدّين. فقد كان الملك منذ الأيام الأولى من حياته حتى نهايتها مُسلماً تقياً ورعاً يتّبع أوامر الشريعة بكل تفاصيلها. وكان تعليمه خلال منفاه في الكويت محدوداً لكنّ ذلك لم يمنعه من معرفة القرآن وغيره من الكتب الدينية لدرجة كانت أحياناً تذهل علماء بلده. ومن تعاليم الدين أن يكثر المؤمن من تلاوة القرآن ما أمكنه. وكان جلالته دائماً يخصِّص نصف ساعة في اليوم لقراءة القرآن وغيره من كتب الدين، خاصة تلك المشتملة على أسماء الله الحسنى. وكان نادراً ما تحدّث مع أحد دون أن يستشهد بآية من القرآن الكريم الذي كان يستقي منه فيضاً لا ينضب من الحكمة والإلهام. وكان ماهراً في تفسير الآيات وشرحها بطريقة تخلب أفئدة جلسائه.
ولقد جعل الدّين لحياة الملك هدفاً بحيث كان كلما وسّع ورسّخ مملكته عظُمَت خدمته للإسلام بما كان يقوم به من أعمال. وقد منحته معتقداته الدينية قوّة في مختلف الأحوال. ومع ذلك فإنّ قوّته مهما عظُمَت لم تكن مصدر خطر لأن يصبح مختالاً فخوراً بنفسه. ولم يكن أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب يؤمنون بتمجيد الأفراد. وقد عُرِف الملك أنه، بصفته إنساناً، كان يقوم بأفضل ما يستطيع، وأن كل شيء أنجزَه كان بإرادة الله وحده.
وقد أعطى الدين ابن سعود نظاماً دقيقاً لحياته في بلاده الصحراوية القاسية. ذلك أن الإسلام يوجب على معتنقيه أن يصلّوا خمس مرات في اليوم في أوقات محددة أينما كانوا. وقيام المرء بهذا الواجب كل يوم طيلة حياته يفرض عليه نظاماً يجعل تناوله لواجباته الأخرى بانتظام أكثر سهولة. وكانت أعمال الملك اليومية تدور حول أوقات الصلاة التي تبدأ بصلاة الفجر وتنتهي بصلاة العشاء. والواقع أن الملك قد فرض على نفسه نظاماً بحيث لا ينام أكثر من ست ساعات في اليوم. وكان نومه ثلاث فترات. كان، عادةً، ينام أربع ساعات في الليل، وساعة بعد صلاة الفجر، وثلاثة أرباع الساعة بعد الغداء، وقد مكّنه هذا النظام، مع ما كان يتّصف به من قوة جسمانية، من اتِّباع جدول عمل قاسٍ في المدينة والصحراء لا يستطيع اتِّباعه من يفتقر إلى عقيدة راسخة. وكان إخلاصه الواضح للإسلام يبث فينا النشاط ويدفعنا إلى اتِّباع خطواته المدهشة.
وكانت حياة الملك في أسفاره الصحراوية منظّمة جداً. فقد كان ينطلق بعد ساعة ونصف من شروق الشمس، ويتوقّف وقت الصلاة، ثم يتابع سيره حتى قُبَيل غروب الشمس. وكان هناك نظام خاصّ للطريقة التي كان يسافر بها كل سنة إلى الحج. وربما كان أعظم ارتياح شخصي اكتسَبه من استيلاءه على الحجاز أن مكّنه من أداء الحج كل سنة وتأدية المناسك التي أدّاها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان الملك يُقِيم احتفالاً في مساء اليوم الثالث عشر من ذي الحجة لكلّ زعماء العالم الإسلامي الذين أدّوا الحج. وكان يُلقي قبل المأدبة خطاباً يشتمل، عادةً، على نصيحة طيبة وتوجيه ديني سليم. وكان هذا الاحتفال، أو المؤتمر الإسلامي العالمي، مفتوحاً لكل الحُجّاج البارزين. وكانت الجموع الغفيرة تزدحم لسماع كلمات جلالته. وبعد أن يُلقي خطابه يفتح المجال لكلّ زعيم يريد أن يُعبّر عن رأيه في الأحداث الجارية. وقد استمر هذا التقليد حتى اليوم تحت حكم الملك خالد.
وكان استيلاء الملك على البلاد المقدّسة أعظم حظّ ممكن للمسلمين جميعاً، مع أن ذلك لم يقدَّر فوراً من كل الدول العربية. فبعد استيلائه على الحجاز بقليل دعا قادة الدول العربية والإسلامية إلى عقد مؤتمر لتقرير مصير المدن المقدّسة. ومع أن جلالته كان يشُك في قيمة ذلك الإجراء فإنّه كان كريماً بحيث استضاف المؤتمر على نفقَتِه الخاصّة. فإنّه كان كريماً بحيث استضاف المؤتمر على نفقَتِه الخاصة. وبعد فترة من النقاش اقترح بعض الزعماء أن تكون البلاد المقدسة مشتركة لكل المسلمين في العالم، وأن تكون جمهورية إسلامية تُحكَم ديموقراطياً من قِبَل كل الدول الإسلامية. وكان لدى الملك شكوك قوية في إمكانية تطبيق هذا الاقتراح. فكان جوابه الموجز عنه: “إنكم تكادون تكونون جميعاً زعماء بلدان خاضعة للقوى الاستعمارية. وعليكم أن تحرّروا بلدانكم من السيطرة الأجنبية قبل أن تجسروا على ان تقولوا لي من الذي يجب أن يحكم الأرض المقدسة”.
وكما كانت الحال دائماً أصاب سهم جلالته الهدف، ولم يجد أولئك الزعماء ما يقولونه. ومضوا من عنده مقتنعين بأن الأماكن المقدسة أصبحت في يدي زعيم قوي يستطيع أن يحميها ويدافع عنها.
وكانت ثقة الزعماء المسلمين الجديدة بابن سعود لها ما يبرّرها. فمنذ أن استولى على الحجاز حرص على أن تكون الأموال التي يهبها الحجّاج لصيانة الأماكن المقدسة تُدار بدّقة وأمانة. وذلك ما لم يحدث زمن حكم الهاشميين. ولقد اتّخذ، أيضاً، خطوات تضمن عدم خداع المطوفين الذين لا ضمائر لهم لحجاج بيت الله. وقد كلف مستشاره، حافظ وهبه، بعمل نظام للمطوفين والأجور التي تدفع لهم. ومن سوء الحظ أن الأموال التي استطاع الملك أن يخصّصها لصيانة الأماكن المقدسة لم تكن دائماً كافية. وفي سنة 1949م بدت علامات التهدّم في المسجد الحرام، فقام أناس من المصريين بجمع ثلاثين ألف جنيه إسترليني لترميمه. ثم قدِمُوا إلى المملكة وسألوا جلالته أن يساهم في ذلك شخصياً. وكان في ذلك الوقت قد بدأ يتسلّم مبالغ كبيرة من دخل الزيت. فاستطاع أن يخبر المصريين بأنه سيقوم بإصلاح المسجد حتى يعود على روعته السابقة، وأنّ في إمكانهم أن يتبرّعوا بالمال الذي جمعوه لفقراء بلادهم. ومنذ ذلك الوقت أخذت الحكومة السعودية على عاتقها المسؤولية الكاملة في رعاية الأماكن المقدسة، وأصبحت التبرّعات التي يجود بها المسلمون تُصرَف في أمور أخرى جديرة بها. وبمرور السنين أنفقت هذه الحكومة بلايين الريالات لإصلاح تلك الأماكن وصيانتها والعناية بها.
وكانت معرفة الملك بالدّين وإخلاصه للإسلام من الأمور التي جعلته يُعتَبَر من أعظم قادة المسلمين عبر التاريخ. وكان قادراً على شرح القرآن وتفسيره بطريقة ممتازة مفهومة لدى أبسط رجال البادية. وفي اعتقادي أنه قدّم للعقيدة الإسلامية خدمة لم يقدّم مثلها أي رجل في هذا الزمن.
أما العمود الثاني من أعمدة شخصية ابن سعود فهو كرمه وعفوه. فقد كان سخاؤه طبيعياً لا تكلُّف فيه. وكان يعطي بل تقدير حتى وإن كانت خزينته فارغة. وذلك ما كان يُحزِن ابن سليمان، وزير ماليته، حزناً شديداً؛ إذ كان عليه أن يغيّر ميزانيته باستمرار. ولقد سمعت جلالته يقول مازحاً أنه كثيراً ما شعر بأنّه كالجزور التي يستطيع كل إنسان ذي يد ماهرة أن يقتطع منها ما يريد.
صحيح أن كرَم الملك غالباً ما كان قضية سياسية محسوبة، خاصّة في تعامله مع البدو. لكنّه كان، أيضاً، يشعر بالسعادة من جرّاء إنفاقه، وهي سعادة لا علاقة لها بالسياسة. ويقال أنه كان مسافراً ذات مرّة فغرز عدد من سيارات حاشيته، ورفض، كعادته، أن يترك مكانه حتى يتأكد من أن جميع السيارات قد خرجت من الرمل. وفي أثناء ذلك نزل من سيارته وجلس في ظل شجرة، وفجأة وقف أمامه بدويّ لم يعرف أنه الملك لأنه كان يلبس ثوباً بسيطاً وغترة. ثم جلس بجانب جلالته وقال له: أين الشيوخ؟ فأجابه مبتسماً: لا بد أنه من الرجال الذين تراهم. وانتظر البدويّ أن تسنح له الفرصة لرؤية الملك. وحين أخرجت جميع السيارات من الرمل استعد جلالته لترك المكان، وأخذ حفنة من الريالات وأعطاها إياه. وحينئذ مدّ البدويّ يده وقال: السلام عليك يا عبد العزيز. سأله الملك: كيف عرفت أني عبد العزيز؟ فقال: لا أحد يعطي بكرم مثلك.
ومهما كان حرج مالية الملك فقد كان مبدؤه أن لا يدع زائراً أجنبياً يغادر ديوانه بدون هدية فاخرة. وكان يحتفظ في القصر بكمية من اللؤلؤ والجواهر الأخرى والسيوف والخناجر المُرصّعة بالأحجار الكريمة لتقديمها إلى الضيوف البارزين. ولم يكن من غير المألوف أن يهب سيارات وخيولاً عربية أصيلة. ففي سنة 1928م زار الجنرال كلايتون الملك في جدّة، وانتابه مرض جعله يغادر المدينة بسرعة. وكان من عادة جلالته أن يقيم حفلة وداع عند مغادرة ضيوفه. وإذا كان الضيف مستعجلاً زوّده بالطعام غير المطبوخ ليتناوله فيما بعد. وحين عُرِضَت الحفلة المعتادة على كلايتون اعتذر عنها بلطف، وقال إنه لا يشعر بالرغبة في تناول أي طعام. وبناء على ذلك أُخبِرَ بأنّهُ من المُعتاد أن يزوّد الضيوف المستعجلون بالوليمة غير مطبوخة. فقِبَل ذلك. وأمرَ الملك فوراً أن تزوّد باخرته بالتموين الكافي لإطعام طاقمها برمّته في رحلة عودتها إلى بريطانيا.
وفي مناسبة أخرى، بعد معركة السبة بقليل، وصل إلى الرياض وفد من شيوخ الكويت برئاسة الشيخ أحمد الجابر الصباح. وكانوا قد أتوا لتهنئة الملك على انتصاره في تلك المعركة الحاسمة. وأذكر أن موظفي الديوان كانوا ينتظرون بأنفاس محبوسة كيف سيعالج جلالته الموقف الحرِج لأن الخزينة كانت مُرهَقة بعد الغزوة الطويلة. لكن دهشتنا تجاوزت الحدود حين رأينا الضيوف يغادرون محمّلين بأسخى الهدايا. فقد استطاع الملك بطريقة ما أن يزوّدهم جميعاً بسيارات وسيوف مطليّة بالذهب والفضة ومبالِغ من المال.
وربما كان أبرز مثال على سخاء الملك غير المحدود ما حدث سنة 1952م حين أمر ببناء قصر في الحجاز للملك فاروق الذي كان ينوي زيارة المملكة. وقد سمّي ذلك القصر قصر الزعفران. وكان نسخة مطابقة لأحد قصور الفاروق المُسمى بهذا الاسم في مصر. وقد بني في مكان منعزل جداً خارج مكة المكرمة. وكانت الاضطرابات في مصر، حينذاك، قد وصلَت إلى قمّتها. ومن المُحتَمَل أن العاهلَين قد اتّفقا على أنّه قد لا يكون مأموناً ان يسكن الملك فاروق في وسط المدينة التي تعجّ بالحركة. والواقع أن ذلك القصر لم يُستَعمَل أبداً لأن عبد الناصر أطاح بفاروق قبل أن يقوم بزيارته للمملكة. وحتى لو أنّه قام بتلك الزيارة فإنه لن يستقيم في ذلك القصر إلا بضعة أيام.
وكان كرَم الملك الطبيعي يواكب عطفه ورحمته. فبدلاً من اتِّباع العادة القديمة بقطع رؤوس الخصوم في أول فرصة متاحة كان يُظهِر عفواً عظيماً تجاه أعدائه المهزومين. وكان ما أن يتغلّب على خصم حتى يردّ إليه اعتباره وينأى عن الثأر منه. ولعلّ أعظم الأمثلة على ذلك عفوه المتكرّر عن الدويش. وكان عفوه يتّسع ليشمل أولئك الذين تآمروا للنّيل منه شخصياً. فحين كان في الطائف، سنة 1930م تقريباً، وصلَت إليه أنباء تُفِيد بأنّ جماعة من الشباب ينتمون إلى نادٍ لكُرة القدَم في تلك المنطقة كانوا يخطّطون لاغتياله في المسجد المحلّي. فألقي القبض على أولئك الشباب، لكن جلالته اكتفى بسجنهم. ثم أطلق سراحهم بعد ستّة شهور إثر استرحام وفد من أهالي جدة من أجلهم.
ولم يكن تعاطف الملك مقصوراً على الذين هزمهم شخصياً. فحين اعتلى الملك أمان الله عرش أفغانستان دعاه كثير من رؤساء الدول لزيارة بلادهم. فكتب الشيخ عبد الرحمن القصيبي إلى ابن سعود يقترح عليه أن يدعوه لزيارة مكة المكرمة. لكن جلالته قال إنه لن يدعوه لأنه، بصفته مسلماً، على الرحب والسعة لزيارتها متى أراد. وبعد ذلك أُطِيحَ بأمان الله ونُفِيَ إلى إيطاليا. ومع أنّه كان مسلماً تقيّاً فقد أُشِيعَ عنه بعد سنة بأنّه تحوّل إلى الكاثوليكية. ورغبة منه في نفي هذه الإشاعة وتطهير سمعته انتهز أول فرصة ليؤدّي الحج. ورغم أن ابن سعود لم يكن لديه ما يجنيه من وراء مساعدة أمان الله فقد تعاطف مع ذلك المسلم الذي ذلّ بعد عزّ، وذهب شخصياً وهو في مكة للسلام عليه. وقد ذهبت مع جلالته مترجماً، وأذكر أنه بدأ حديثه مع أمان الله بقوله: إني سعيد أن أراك في هذه المدينة. وبعد أن استقبله استقبالاً ملكياً هيأ له مكاناً يقيم فيه، وأمر أن تُقدَّم له كل الخدمات اللائقة بملِك. وقد ساعد اهتمام جلالته بأمان الله على إزالة الشُبهة عنه، فغادر البلاد وهو عظيم الامتنان لما أبداه الملك من لطف.
وفي سنة 1920م هاجم الدويش الجهراء في الكويت، ونتَجَ عن هُجُومه كثير من الضحايا. ولم يبقَ في الكويت إلى أُسَر قليلة لم تُصَب بأذى. ولم يكن ذلك الهجوم بأمر من الملك، وإنما كان تصرُّفاً شخصياً من الدويش نفسه. وبعد المعركة بقليل أتى وفد من شيوخ الكويت إلى جلالته مؤكدين له أنّهم قد أدركوا بأنه لم تكن له يد في الموضوع، ومعبّرين له عن صداقتهم لشخصه الكريم. وبعد المجاملات الأولية قال الشيخ سالم الصباح، الذي كان يترأس الوفد، لجلالته: إن حدود المملَكة تمتدّ إلى أسوار مدينة الكويت. فأجابه الملك فوراً بقوله: إن حدود الكويت تمتدّ إلى أسوار مدينة الرياض.
والعمود الثالث من أعمدة شخصية ابن سعود قدرته على الكتمان والسِريّة. فكان غالباً ما أخفى خُطَطه عن أقرب المقرّبين إليه كأُسرته ومستشاريه. وبذلك لم تتسرّب خططه أبداً إلى أعدائه. ولا شك في أن معسكر جلالته كان، أحياناً، مليئاً بالجواسيس الذين كانوا حريصين على معرفة نواياه. لكنّهم كانوا يفشلون في مهمّتِهم، مع أن جلالته كان قادراً على أن يحصل على معلومات كاملة بواسطة جواسيسه عن الرجال الذين كانوا أقلّ منه قدرة على الصمت. وفي بلاد كانت الإشاعة تنتشر فيها انتشار النار في الهشيم كان تكتُّم الملك من أقوى أسلحته ضد خصومه.
وكانت الشجاعة العمود الرابع من أعمدة شخصية الملِك. صحيح أنه لم تكن هناك نُدرة في الرجال البواسل في تاريخ الجزيرة العربية، لكنّ الملك عبد العزيز بن سعود كان من أعظم هؤلاء البواسل. وغالباً ما كان في حاجة إلى شجاعته لأنه ما من إنسان قام بمثل هذه المَهمّة التي قام بها دون أن يكون محارباً من الدرجة الأولى. وهناك قصص كثيرة عن شجاعته. وكثير من الناس يتحدّثون عن شجاعته الصامدة في تحمُّل آلام الجراح التي حدثت له في معاركه. فذات مرّة تحمَّل جرحاً خطيراً في معدته طيلة حملة دامت ستّة شهور قبل أن يعالج علاجاً طبياً وافياً. وقد أخبرني طبيبُه، رشاد فرعون، بأنّه حدث له أن أصيب برصاصتين استقرّتا تحت جلد بطنه. وحين بدأ بإعداد المخدّر لإجراء عملية لاستخراجهما سأله الملك عمّا يفعل. ولما شرح له ذلك انفجر ضاحكاً، وأمَرَه بإبعاد المخدّر. ثم أخذ مشرطاً بيده وشقّ الجلد الذي فوق الرصاصتين، وأمر فرعون بأن يقوم بمَهمّته.
ورغم أن ابن سعود كان مشهوراً بالجُرأة والبسالة فإنّ شجاعته لم تكن مجرّد عدم خوف من النوع الذي يستولي على الإنسان في لهيب المعركة فيعميه عن الأخطار المحيطة به. كانت لديه بجانب الشجاعة صلابة هادئة لرجُل يرى بوضوح الخطر المحدق في خِضمّ الحدث فيواجهه مواجهة صحيحة.
ولعلّه في موقفه هذا يطبّق قول المتنبي:
الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشُجعانِ هُوَ أوّلُ وهي المحلُّ الثاني
ولم يفتخر ابن سعود يوماً من الأيام ببطولته، بل لا أعتقد أنّه كان ينظر إلى نفسه على أنّه بطل من الأبطال. فقد قال لي مرّة: إنّ ما وهبني الله لم يكن بسبب قوّتي، بل بسبب ضعفي وقوّته سبحانه وكان شعوره بذلك هو الذي حثّه على ما قام به من شجاعة وإقدام. ولم يكُن في الواقع يشعر بأنّه كان أشجع من الآخرين، لكنّ الله منَحَهُ موهبة خاصة؛ إذ كانت ردود فعله في الأوقات الحرجة من السرعة والذكاء بحيث تمكّنه من التصرّف بطريقة أفضل من غيره. وكان يعتقد، أيضاً، بأن الله قد أنعم عليه بحظّ عظيم. ولعلّ أفضل برهان على ذلك ما كان يبدو على جسده من جراح يتحدّث كل واحد منها عن قصة موتٍ نجا منه بأعجوبة. ويقال بأن سعود ابن عبد العزيز، ابن عم الملك الذي كان يرى أنه أحقّ بالحكم منه، افتخر ذات مرّة في لحظة من لحظات غضبه بأنه أشجع كثيراً من جلالته. وحين سمع الملك ذلك لم ينزعج، وإنما ابتسم ابتسامة عريضة وقال: “إن ما ذكره سعود صحيح. فهو أشجع مني لكني أعظم حظاً منه”. وقد قال مرّة أيضاً: إن أنعم الله على أولادي بحظٍّ مثل الذي أُنعِمَ به عليّ فسيكونون قادرين على حكم العالم العربي كلّه”.
وكان العمود الخامس لشخصية الملك، في اعتقادي، قوّته الفريدة على المثابرة. فكان إذا وضع لنفسه هدفاً معيّناً بذل قُصارى جهده للوصول إليه دون ملَل. ومهما كانت النكسات والعقبات فإنها لم تكن لتثني عزمه عن غايته النهائية. وقد استطاع المقرّبون منه أن يُشعِرُوه بتلك العزيمة كقوّةٍ نفسية تتغلّب على من كانوا أضعف منه إرادة وتجاسروا على معارضته. وكان من جوانب شخصيّته التي أثّرت فينا جميعاً رغبته الدائمة في معرفة آخر الأنباء من جميع مناطق مملكته لإدراكه بأنّ عليه أن يكون أكثر معرفة بما يجري فيها من أي إنسان آخر ليصبح أقوى رجُلٍ في البلاد.
وكان في قُدرة جلالته، لو أراد، أن يطبّق عزيمته التي لا تلين لا على شؤون الدولة الكبيرة فحسب، بل على أقلّ مشكلات رعاياه. ففي يوم من الأيام أتى إلى مجلسه العام بمكة المكرمة رجل كبير السن وناوله عريضة تتعلّق بمُلك من الأملاك. فأحال جلالته العريضة إلى ابنه فيصل لينظر فيها. وفي السنة التالية وقف ذلك الرجل خارج الديوان وصاح قائلاً بأن مشكلته لم تُحلّ، فأمَر ابن سعود بإدخاله إليه فوراً. وبعد أن تحدّث معه وعده بأن موضوعه سيُحَلّ في خلال يومين. واستدعي فيصل، فأُخبِرَ بأنّه قد أحال العريضة إلى رجُلين من موظّفيه فلم يُعثَر على أثر لها. فأمر الملك أن تُفتَّش الدائرة المعنيّة تفتيشاً دقيقاً، حتى عُثِرَ عليها بين الأوراق المحفوظة. وكان أن فصل الموظفان اللذان أهملا تلك العريضة ونال الشيخ ما أراد. وكان لهذا أثرٌ محمود على موظفي الحكومة الذين أدركوا أن إهمال الواجب، همّاً كان بسيطاً، قد لا يخفى على الملك نفسه.
والعمود السادس من أعمدة شخصية الملك النزاهة والعدل. فقد كان تعامُله مع كل إنسان، من البدو البسطاء إلى الملوك الأجانب، يتّسم بالنزاهة التامّة والصراحة الكاملة. وقد يكون ذلك مُزعِجَاً للزُّوار الأجانب المعتادين على اللقاءات المتّصفة بالنفاق. فحين التقى برئيس الجمهورية الأمريكية، فرانكلين روزفلت، في مصر سنة 1945م لم يكن الِلقاء كما يتوقعه ذلك الرئيس. فحينما مدّ يده لمصافحة ابن سعود رفض الملك مصافحته قائلاً: “كيف أصافحك وأنت تساعد الصهاينة ضدّنا”. فارتبك روزفلت، لكنّه استطاع أن يواصل حديثه مع جلالته في ذلك اللقاء، ووعده بأنّه لن يفعل أبداً ما يضرّ بالمصالح العربية.
ومن الأمور التي لاحظتها في الملك بصفة خاصة أنه مهما كان الاستفزاز شديداً لم يسهم أبداً في القيل والقال أو الإشاعات المغرضة. فقد يكون لقاؤه لبعض من لم يكن يستريح إليه فاتراً. وقد لا يتردّد في استهجانه بأشدّ الكلام أمام وجهه. لكني لم أعهده يغتاب أحداً. وممّا يوضح ذلك ما حدث بالنسبة لأسرة المنديل في العراق. فقد كانوا وكلاءه هناك، فأصبحوا أغنياء وذوي نفوذ بسبب ذلك. ثم أداروا ظهورهم لنجد، واختاروا أن يصبحوا عراقيين. وقد تألّم كثيراً لما فعلوه، وأصبح يشعر بالمرارة إذا ذُكِرَت أسماؤهم. ورغم وجود قصص كثيرة عن نشاطهم في العراق فإنّه لم يذكرهم بسوء أبداً.
ولكون الملك متديّناً مستقيماً شريفاً كانت نظرته إلى الجريمة نظرة متشدّدة، وقد أمدّته الشريعة بنظام جاهز طبّقه على شعبه بتجرّد تام. وكان أحد الشعارات الأثيرة لديه: “لا يدوم الملك بدون عدالة.” ولم يقم بأية محاولة لاستثناء نفسه من حكم الشرع. وكان إذا اقام أي إنسان من رعاياه دعوى ضدّه عيَّن وكيلاً عنه ليتحاكم معه لدى قاضٍ يثق بحياده. وكان يخضع لحكم الشرع مهما كانت نتيجته.
وحين ضمّ الملك الحجاز إلى مُلكِه وجد أنه قد ورث مشكلة إجرامية خطيرة. فخلال السنوات الأخيرة من حكم الهاشميين انتشرت مختلف أنواع الجرائم. وكان يوجد في المدن الكبيرة من تلك البلاد حالات قليلة من السرقة والزنا واللواط والاغتصاب والقتل. وكان بعض البدو الذين لا رادع لهم يقطعون الطرق وينهبون الأبرياء، خاصة الحجاج الذين كانوا يسيرون دون حماية. وقد أبى الملك أن يحتمل مثل هذه الأعمال في بلاد الإسلام المقدّسة، وصمّم على تطبيق أوامر الشرع بحقّ مرتكبيها. فقطّع أيدي من أُدِينوا بالسَرِقة. وحين قبض أمير المدينة المنورة، مشاري ابن جلوي، على بدويّ كان يقطع الطريق وينهب الحجاج ويقتلهم أمَرَ بربط يديه برجليه وإلقائه فوق شجرة ذات أشواك وتركه هناك ليموت تحت وهَجِ الشمس. ثم طُرِحَت جُثّتُهُ على جانب الطريق ليكونَ عِبرةً للآخرين. وقد حدث أن اختطف خمسة أو ستة شُبّان في مكة المكرمة صبياً ليلوطوا به، وأبقَوه عندهم أيّاماً، ثم قتلوه ودفنوه في سرداب. وحين اكتشف أمرهم أُعدِموا أمام دار الحكومة.
وكما كانت الإجراءات صارمة بحق المجرمين العتاة كان الحزم شديداً، أيضاً، بالنسبة لجميع المجرمين. قد قُضِي على البغاء، مثلاً، بإبعاد الداعرات المعروفات عن البلاد. ولم تكن تلك الإجراءات الصارمة، في اعتقادي، تتنافى مع عفو الملك المعهود.. فالرحمة ينبغي أن لا تُفسَّر بأنها ضعف. وكان من الضروري أن تكون هناك علاجات قوية لحماية المواطنين من اعتداءات المجرمين. وينبغي أن يُعلَم بأن أمثلة قليلة من الشِدّة كانت كافية لإيقاف كثير من الجرائم المُحتَمَل وقوعها، وإفهام سكان الحجاز بأن النظام وجِدَ ليبقى. وكانت مقاومة الجريمة في المملكة ناجحة بدرجة كبيرة. ومن المُلاحظ أن هناك عدداً كبيراً من الأجانب يعملون في بلادنا، لكن الطبيعة الصارمة العادلة لنظامنا قد جعلت من النادر أن يُعتَدى عليهم أو يعتدوا على الآخرين. وإني لأعلم بأن أقطاراً أوروبية قد أرسلَت باحثين إلى المملكة ليعرفوا كيف استطاعت حكومتها أن تحافظ على النظام بهذا القدر من الجودة. وفي اعتقادي أن هذه الظاهرة تعود ببساطة إلى دين الإسلام، وعدم تناول الخمر، والسياسة الحكيمة التي وضعها عبد العزيز بن سعود نفسه.
أمّا العمود السابع والأخير من أعمدة شخصية الملك فهو تلك الصفات التي تدخل ضمن قوة العقل. وإن المثل القائل بأن “الوقت المُعطى للفكر أعظم توفير للوقت” يوجز بدقّة موقف جلالته. فقد وُهِب قوة ذاكرة وإدراك وملاحظة وفطنة خارقة للعادة. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت تحيط به هالة نفسانية من النبل والحكمة تواكبها قامته الفارعة ومظهر رجولته مما جعل له أثراً عجيباً على كل من جلس لديه مهما كانت درجة ذكائه. وكانت لديه عظمة وجاذبية سحرَتا من رآه وجعلتا منه قائداً طبيعياً. وكان له من قوّة الإرادة ما مكّنه من الهيمنة على عقول الناس وجعلها تطيعه دون مناقشة. ولقد رأيت في مناسبات كثيرة رؤساء القبائل المتكبّرين يأتون إلى مجلسه في حالة من العِداء الصريح ثم لا تلبث شخصيته أن تطغى عليهم فيكسبهم بابتسامته وجاذبيته الأخّاذة.
وكانت ذاكرة جلالته أعظم إثارة للإعجاب من ذاكرة أي رجل عرفته في حياتي. فقد كان يحمل في رأسه من المعلومات ما يكفي لملء مكتبه. وكانت لديه موهبة التذكُّر الفوري. فكان – مثلاً – عالِماً بكل قبائل مملكته وبطونها وأفخاذها وتواريخها وتقاليدها. وكان يستطيع في بضع ثوان من حديثه مع أي بدَويّ أن يعرف من طريقة كلامه القبيلة التي ينتسب إليها والفرع الذي ينحدر منه.
وكان ابن سعود متحدّثاً ومجادلاً بارعاً، كما كان بليغاً في كل خُطَبه. وكانت سيطرته على نفسه من القوة بحيث لا أذكر أبداً أنّه تكلم بكلمة في غير محلّها أو زائدة عن المقصود. ولم أعرفه أنه قال شيئاً ندم على قوله فيما بعد أو ودّ لو لم يقُلُه.
وكان كلامه العادي مليئاً بالمجازات الذكية والحكمة والأمثال التي تجعل سامعه يودّ لو أنه لا يتوقف عن الحديث. وكان دائماً يجد الملاحظة الدقيقة والمثل المناسب لأي موقف. من ذلك أنه تحدّث مرة مع عبد الوهاب كاتب الحرَم، أحد وزراء الشريف حسين السابقين. ولدى مصافحة عبد الوهاب له علّق على نعومة يدي جلالته معبّراً عن دهشته أن تكونا يدَي محارب مثله. ولم ينزعج الملك أو يحرج، بل ابتسم، واستشهد ببيت الشعر المشهور:
إنّ الأفاعي وإن لانَت ملامسها عند التقلُّبِ في أنيابها العَطَبُ
ولم تكن جاذبية الملك مؤثرة في رعاياه فحسب. فحين امتدّت شهرته إلى خارج مملكته وأخذت قصصه تنتشر في العالم الإسلامي والصحافة الأجنبية بدأ الديوان يتلقّى رسائل غريبة من المُعجبين به. وكثيراً ما كانت تلك الرسائل مصحوبة بصور فتيات جميلات في أوروبا وأمريكا يطلُبنَ أن يعملنَ في قصر جلالته. وكانت إحدى الرسائل من استراليا وفيها صورة فتاة ساحرة حسنة الهندام. فأعطى الملك الصورة إلى رئيس قبيلة قحطان، فيصل بن حشر، وسأله عن رأيه فيها. فأجاب فيصل – وربّما كان جوابه أقرب إلى الحقيقة مما كان يعتقد -: “يا صاحب الجلالة من الواضع أنها وقعت في حُبّك”. فإذا كان هذا هو تأثيره على فتاة مجهولة في مكان بعيد فلمرء أن يتخيّل تأثيره علينا نحن الذين كنّا نعيش ونعمل معه كل يوم.
وكان جلالته نادراً ما غادر الجزيرة العربية. فلم يغادر بلاده إلا ثلاث مرّات طِيلة عهده؛ إحداها إلى البصرة سنة 1916م بدعوة من البريطانيين حين نزلوا في تلك المدينة، والثانية إلى الكويت والبحرين في طريق عودته من مقابلة ملك العراق في الخليج العربي سنة 1920م، والثالثة إلى مصر سنة 1945م لمقابلة الرئيس روزفلت وتشرشل والملك فاروق. وكانت له علاقات دبلوماسية ودّية مع جميع قادة الأقطار العربية المجاورة باستثناء الهاشميين المُمثّلين بعبد الله، ملك الأردن، وفيصل ملك العراق. وكان من المتوقّع أن تكون العلاقات بينه وبينهما متوترة نتيجة لضمّه الحجاز إلى حكمه. وكان لجلالته علاقات ودّية مع كثير من الدول الأجنبية. وبما أن غالبية البلدان الآسيوية والأفريقية المجاورة كانت تحت الاستعمار فقد كانت علاقات الملك الدبلوماسية بتلك البلدان مقصورة، بطبيعة الحال، على بريطانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا.
ولعلّ قصة حياة ابن سعود لا تكتمل دون الإشارة إلى تعاطفه مع المصالح الوطنية للبلدان العربية الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية، خاصة فلسطين. والقضية الفلسطينية تستحق فصلاً خاصاً بها لأنها مرتبطة ارتباطاً لا ينفصل بتاريخ العالم العربي كله خلال الجزء الأكبر من هذا القرن، لا سيما منذ وعد بلفور سنة 1917م الذي تعهّد بالدعم البريطاني لليهود لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. لكنّ هذا الموضوع نُوقِش كثيراً في مراجع أخرى، وسأقتصر هنا على ذكر دور ابن سعود فيه لأن ذلك ربما كان غير معروف على نطاق واسع.
منذ أوائل عهد الملك كان معتاداً على تقديم العون والنصح للوطنيين العرب في كفاحهم من أجل الاستقلال من نير الاستعمار. وكان الحاجّ أمين الحسيني والأستاذ شكيب أرسلان، رئيس تحرير مجلة “العرب” التي كانت تصدر في سويسرا، اثنين من الشخصيات السياسية الكثيرة في العالم العربي التي أيّدها ابن سعود.
وكان كثير من هؤلاء الرجال يتلقّون مساعداته المالية بانتظام عن طريق القنصليات السعودية في مصر ولبنان وسوريا والعراق.
وكن ابن سعود، باحتلاله مركز الصدارة بين رؤساء الدول العربية في عهده، عميق الصلة بقضيّة فلسطين. ومن الصعب أن يصف المرء اهتمامه بحقوق الشعب الفلسطيني. ورغم أنه آثر أن يبقى بعيداً عن الأضواء فقد كان على اتصال مستمرّ بالدول العربية المعنيّة وبالقادة العرب من أجل تلك القضية. وكان دائماً يقدم نُصحَهُ لحلها، ويطالب الغرب باسم الفلسطينيين. وكثيراً ما أصدر تصريحات شديدة اللهجة ليعبّر عن آرائه ويحذر من مغبة تجاهل حلّ عادل للمشكلة.
وكان الملك على اتصال دائم بالحكومة البريطانية وحكام العراق والأردن واليمن طيلة الإضراب العام الذي قام به الفلسطينيون سنة 1936م. وكانت بريطانيا قد التمست من القادة العرب أن يتدخلوا لإنهاء ذلك الإضراب الذي دام ستة شهور. وكان لابن سعود دور فعّال في إقناع قادة فلسطين بإنهائه. على أنّه كان يقدّم مساعدات منتظمة للفلسطينيين، خاصة الأيتام وضحايا الإضراب.
ومع ازدياد أهمية القضية الفلسطينية والنتائج المترتّبة عليها ازداد اهتمام الملك بها. وقد سبقت الإشارة إلى زيارة فيلبي للمملكة سنة 1940م لإقناع الملك بقبول الخطة المقترحة لفلسطين. وكان من الواضح أن كُلّا من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قد اعتبرتا موافقة ابن سعود أمراً أساسياً لتنفيذ تلك الخطة.
وفي سنة 1938م أرسلت بريطانيا مندوباً على الرياض ليرجو الملك أن يحضر مؤتمراً في لندن خلال السنة التالية لبحث المشكلة الفلسطينية. ولأنّ جلالته كان يدرك أهمية ذلك المؤتمر قبل أن يحضره ابنه فيصل، الذي كان حينذاك نائبه في الحجاز ووزير خارجيته. وحينما توجّه فيصل إلى لندن سنة 1939م كان يحمل معه رسالة من أبيه إلى رئيس وزراء بريطانيا تشمبرلين. وقد ذكّر بريطانيا في تلك الرسالة بدعم العرب لها خلال الحرب وطلب منها أن توضّح، بوحي من صداقتها للعرب، سياستها تجاه فلسطين. ورغم كل جهوده فإن مؤتمر لندن، أو مؤتمر الطاولة المستديرة، لم يقدّم أي شيء من أجل الحلّ المأمول. ولعلّ ممّا تجدر قراءته تلك الرسائل المتبادلة بين ابن سعود وبين عدد من رؤساء الدول الغربية بشأن فلسطين. وقد ضمّ الملحق السابع من هذا الكتاب منتخبات منها. وكان الملك يناشد فيها بريطانيا وأمريكا بالعدل والإنصاف. وكان زعماؤها يذكرون له دائماً بأن الدولتين لن تفعلا شيئاً يضرّ بمصالح العرب. أمّا ما جرى بعد ذلك فمعروف لدى الجميع.
ولعلّي لم أذكر حتى الآن إلا القليل عن حياة الملك الخاصة. وليس في نيّتي أن أقول الكثير عنها لأني أشعر بأن الرجال العظماء لهم الحق في الاحتفاظ بأخبار حياتهم الخاصة حتى بعد وفاتهم. على أنّ هناك بعض الحقائق التي يمكن أن أشير إليها دون تجاوز لحدود اللياقة، خاصة بعض التفصيلات التي تتعلق بأسرة جلالته. فقد تزوج كثيراً من النساء خلال حياته، لكنه – طبقاً لأوامر الشريعة – لم يجمع أكثر من أربع زوجات في وقت واحد. وكان الزواج بالنسبة إليه وسيلة سياسية مهمّة وأداة قوية في توحيد المملكة لأنه حين يتزوّج من أسرة معيّنة تتشرّف هي وقبيلتها بزواجه، وتظلّ في أغلب الأحيان موالية له. بل إن الأسرة تحظى بشرف زواجه منها حتى بعد طلاقه لزوجته، خاصة إذا كانت قد أنجبَت منه.
وقد استمرّت بعض زِيجات الملك أكثر من البعض الآخر، وقليل منها لم يدُم إلا يوماً واحداً. وربما كانت هناك زوجتان تعلّق بهما تعلّقاً خاصاً.
وكان للملك ما لا يقل عن ستين ولداً، منهم ستة وثلاثون ذكراً. وقد عاش حتى رأى أحفاده الكثيرين من نسل أبنائه وبناته. ولو حاول مصوّر أن يأخذ صورة عائلية لجلالته مع كل أبنائه وأحفاده لكان عليه أن يُعِدّ آلة تصوير بحيث تتسع لالتقاط ما لا يقلّ عن ثلاثمائة شخص.
ويستحق كل واحد من أبناء الملك أن يُكتَب عنه كتاب مستقل، لكني أكتفي بالإشارة على الثلاثة الكبارة منهم، وهم تركي وسعود وفيصل. وكان تركي أكبر هؤلاء. وقد ولِدَ سنة 1901م (1318هـ). وقد برهن خلال حياته القصيرة على أنّه محارب شجاع قدير وصيّاد ماهر، كما أبدى مواهب جيدة في الإدارة وبدأ ينمّي شخصيته بدرجة تكاد تساوي درجة أبيه. لكن المأساة التي أحزنت كل من عرفوه أنه توفي بوباء الانفلونزا الذي حلّ بنجد سنة 1919م (1337هـ) وعمره ثمانية عشر عاماً. وقد عُرِفَت تلك السنة عند سكان المنطقة بسنة الرحمة لكثرة من توفي فيها وانتقل إلى رحمة ربه.
وكان سعود أكبر أبناء الملك بعد تركي. وقد ولد سنة 1902م (1319هـ)، وهي السنة التي استولى فيها أبوه على الرياض. وقد وضع جلالته ثقته فيه لدرجة أنه جعله نائبه على الرياض وعيّنه خليفة له في أوائل الثلاثينات من هذا القرن. وكان سعود طويلاً جذّاباً مثل أبيه. وكان لديه الكثير من مزاياه، خاصّة الكَرَم. لكنّه، على أية حال، لم يكن مثله في قدراته العسكرية وقوّة عزيمته.
وكان الابن الثالث الأمير فيصل الذي وُلِدَ في يوم ميمون وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة روضة مهنا 1906م (1324هـ). وقد أبانَ عن نُضجٍ مبكّر منذ صغره. وكان في الثانية عشرة من عمره حين أرسله أبوه في زيارة رسمية إلى بريطانيا بدعوة من حكومتها. وقد أُعجِبَ كلّ من قابلهُ هناك بحكمته وهيئته الملكية. ولما كَبُرَ أصبح سياسياً يتصّف بالذكاء وحصافة الرأي وبعد أن استولى أبوه على الحجاز، وعمره لم يتجاوز العشرين، جعله نائباً له هناك كما أصبح وزيراً للخارجية. وحين أصبح اسم البلاد رسمياً المملكة العربية السعودية سنة 1932م (1351هـ) دعت كثير من الدول المهمّة ابن سعود لزيارتها. لكنّه لم يكن يحبّ مغادرة البلاد فأناب ابنه فيصلاً عنه في تلك المَهمّة. وقد نجح الأمير الشاب في جولته نجاحاً باهراً، وأصبح بعد ذلك الرجل المؤهل لتمثيل الدولة السعودية كلما دعت الحاجة إلى القيام بزيارة إلى بلد أجنبي. ولقد سمعته يتحدث بحماس عظيم وبلاغة مؤثرة عن سفراته إلى أوروبا، خاصة لندن التي اثارت إعجابه أكثر من أيّة عاصمة أخرى. وقد ورث عن أبيه موهبته القيادية في المجال العسكري كما هو واضح من سير حملته الخاطفة في اليمن. وفي اعتقادي أن أباه كان يعتمد عليه اعتماداً كبيراً.
وكانت أعظم مسرّات جلالته الخاصة اتصاله بأسرته. فكان يحب أن يحيط به أكبر عدد ممكن من أقربائه. وكان يعقد في الساعة السابعة من صباح أغلب الأيام مجلساً خاصاً يحضره كبار العائلة وأبناؤه واقاربه ويتناقشون في أيّة مشكلة من مشاكلهم أو يكتفون بالسلام عليه. وكان يجتمع كل أسبوع بكُلّ رجال أسرته، ويجتمع كل أسبوعين تقريباً بكل نسائها على انفراد. وكان منهنّ من يأتين محجّبات ومن يأتين غير محجبات بحسب قربهن منه. وكان غالباً ما يوصي وكلاءه في بومبي ودمشق بشراء أشياء ثمينة ليهديها إلى أفراد أسرته. وكان يقدّم، أيضاً، هدايا ثمينة إلى موظفي ديوانه وأفراد حاشيته. وكان شغوفاً بأبنائه الصغار الذين كانوا يجرون في القصر بحريّة تامة ويزورونه في أي مجلس دون إذن خاص.
ورغم الثروة التي جمعها الملك في أواخر عهده فقد كان يعيش عيشة تقشف وزهد اتباعاً لآداب الشريعة. وكانت رغباته بسيطة وأمكنة سكنه متواضعة. ولا حاجة إلى القول بأنه لم يدخّن أبداً ولم يمسّ الخمر أو أي شراب مسكِر. وكان الشيء الوحيد الذي انغمس فيه شرب القهوة بالهيل حتى أصبح خبيراً بها. وكان هناك عدد من الخدَم في القصر يعملون القهوة له ويسافرون معه أينما ذهب لهذا الغرض. وكان عمل القهوة يتطلّب كثيراً من الدقّة. وكان من يعملونها يحتفظون بسِّر اتقانها احتفاظ الغيور على فنّه. ولم أذق أبداً قهوة أفضل من تلك التي كان هؤلاء يعملونها لجلالته.
وكان لدى الملك إحساس عميق بالدُعابة قد يكون حادّاً في بعض الأحيان. وأذكر أن مدير شركة أرامك أتى لزيارته، وحالما دخل عليه أظهر أنه قد ظنّه عدوَّاً فتجهّم وجهه وأمر باعتقاله فوراً. وبطبيعة الحال سحب ذلك الأمر حالاً بين ضحك الجميع. لكن المسكين أوليفر ظل يرتجف ساعات بعد ذلك. على أن جلالته لم يكن يخطر بباله أبداً أن يسمح بالعبث علناً، خاصة إذا بدا له العبث منافياً للدين بأي شكل من الأشكال. ففي بداية حكمه زار الكويت، وكان الناس مسرورين جداً لرؤيته لدرجة أنهم عملوا له استقبالاً عظيماً دعوا إليه شاباً ليغنّي فيه. ومن المعلوم أن الموسيقى والغناء من الأمور المكروهة لدى أتباع ابن عبد الوهاب. وما أن بدأ الشاب يرفع صوته بالغناء حتى استبدّ الغضب بالملك ووقف شاهراً سيفه وهو يقول: “أنا ابن فيصل” معبّراً عن استيائه الشديد لذلك العمل. فامتقع لون الشاب من الخوف وانسحب بسرعة. وحينئذ استعاد الملك هدوءه وجلس كأنّ شيئاً لم يكن. وأغلب عظماء التاريخ لديهم حالات يعبّرون فيها عن خِفّة وهَزَل ولحظات يروّحون فيها عن أنفسهم من حين إلى حين. لكنّ ابن سعود لم يكن كذلك. وربما كان يحتفظ بهذه اللّحظات لأطفاله الصغار لدى أهله، لكنها لم تحدث أبداً أمام الملأ.
وكان جلالته يودّ أن يمارس الصيد – هوايته المفضّلة – في فترات راحته القصيرة جداً. وكان يذهب في الشتاء أحياناً مع عدد قليل من أصحابه ليصطاد أنواعاً من الصيد، خاصة الظباء. وكانت الحباري تطير خلال الشتاء فوق نجد متجهة نحو مأواها الشتوي في اليمن. وعندما يقترب الربيع تعود من هناك وتواصل طيرانها متجهة، فيما يبدو، إلى سيبيريا ومنشوريا. وكان كثير منها يقع ضحيّة بندقية الملك. وقد أصاب جلالته ذات مرّة طيراً كان على عنقه طوق نحاسي فيه كتابة صينية أو يابانية. وطلب مِنّي أن أقرأ تلك الكتابة، لكني مع الأسف لم أعرف لغتها.
وكان الملك يذهب أحياناً إلى مكان خارج الرياض يسمّى الخفس تجتمع فيه مياه الأمطار. وكان أكثر طراوة وخصباً من الصحراء المحيطة به. وكان جلالته يأخذ معه أحياناً كبار مستشاريه ورؤساء كُتّابِه للنزهة هناك. وإذا وصلوا إليه نسَوا كل ما يتعلّق بأعمالهم المكتبية وتمتّعوا بالراحة والطعام اللذيذ. وكان معروفاً عن الملك أنه يستروح في تلك النزهات فيأخذ معه خادماً لديه موهبة خاصة في الفكاهة. وكان مما يقوم به ذلك الخادم طرح أسئلة حمقاء على ضيوف جلالته. وإذا لم يجب الضيف عنها فوراً إجابة في مستواها عُوقِب. وكانت هذه الدعابات، تتمّ، بطبيعة الحال، بعيداً عن أعيُن العامّة لأنّ الملك كان من الحكمة بحيث يضع بينه وبين رعاياه مسافة معينة مهما كانوا مهمّين. وبهذه الطريقة حافظ على توقير الناس له، وبقيت مكانته مصونة طيلة حياته. وقضية المضحك لم تحدث إلا في العقد الأخير من عمره، ولم تكن تحدث إلا مرة واحدة في السنة.
وقد توفي عبد العزيز بن سعود بهدوء وطمأنينة في الطائف في الحادي عشر من شهر نوفمبر سنة 1953م (الثاني من ربيع الأول 1373هـ)، ولُفَّ جسده بكفن بسيط. ثم دُفِنَ حسب الطريقة الإسلامية الصحيحة في قبر لا علامة له في عاصمته الرياض. واستراح هناك بعد حياة قدّم خلالها خدمة لا تضاهى لأمّته التي وحّدها وللإسلام الذي كان منطَلَقه. ولعلّ من آثار جزائه عند الله أنّ المملكة التي توحّدت تحت قيادته قد وُهِبَت ثروة لا تُتَصَّوّر وحكومة مستنيرة. إن المملكة العربية السعودية تقف على مفترق طرق العالم ولها من الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية ما لم يكن لها في أيّ وقت مضى. وإن توحيدها وتحقيق الكرامة لشعبها بقيادة ابن سعود الملهمة في فترة حاسمة من تاريخنا من الأمور التي تدلّ على إرادة الله جلّت قدرته.
- مقدمة المترجم
- مقدمة
- الفصل الأول: جَزيرة العَرَب قبيْل ابن سُعود
- الفصل الثاني: الاستيلاء عَلَى الريَاض
- الفصل الثالث: سُقوط ابن رشيد
- الفصل الرابع: تثبيت الحكم وتوسيعه
- الفصل الخامس: الحجاز وعسير
- الفصل السادس: ظهُور الإخوَان
- الفصل السَابع: معرَكة السبلة
- الفصل الثامن: نهَاية الإخوَان
- الفصل التاسع: اليَمَن
- الفصل العاشر: ديوان الملك
- الفصل الحادي عشر: شَخصيَات
- الفصل الثاني عشر: سَانت جُون فيلبي
- الفصل الثالث عشر: قِصّة الزيت
- الفصل الرابع عشر: ابن سعود
- الملحق الأول: حُكّام آل سعود وسنوات حكمهم
- الملحق الثاني: موجز لتاريخ آل سعود قبل الملك عبد العزيز
- الملحق الثالث: حُكّام آل رشيد وسنوات حكمهم
- الملحق الرابع: المعارك والحوادث المُهمّة في عهد الملك عبد العزيز
- الملحق الخامس: الرجال الذين اشتركوا مع ابن سعود في الاستيلاء على الرياض سنة 1902 (1319هـ)
- الملحق السادس: هجرة الإخوان المشهورة
- الملحق السابع: رسائل متبادَلة بين الملك عبد العزيز وبين الرئيسين روزفلت وترومان حول فلسطين