(واحلُل عُقدَةً من لِساني. يفقَهوا قولي. واجعَل لي وزيراً مِن أهلي…)

سورة طه (27 – 28 – 29)


كانت أيّامي في ديوان الملك أسعد أيام حياتي. لقد تهيأت لي فرصة طيبة وحظّ عظيم فاستطعت أن أخدُم بلادي في وقت كانت تنهض فيه بسرعة من قرون كانت خلالها مجهولة مُهمَلَة لتأخذ مكانها بين الدول العظيمة في العالم. وكان كل زملائي في الديوان الملكي يشاركونني هذا الشعور لكونهم يلعبون دوراً، مهما كان صغيراً، في الإدارة الخطيرة للمملكة خلال فترة تاريخية من النموّ. وكنّا جميعاً متّحدين في تفانينا وولائنا الثابتَين للملك. وكان كل من التقى بجلالته، مهما كان لقاؤه به قصيراً، يدرك أنه في حضرة رجل فذّ وملك عظيم وهب فنّ القيادة. أمّا العمل معه والتّحدث إليه يومياً فكان مثل التنعّم بنور الشمس الدائم. وكان كل واحد منا مستعدّاً أن يتّبعه دون تردّد إلى أقاصي المعمورة. وكان ولاؤنا المشترك له يربط بيننا ويمنحنا معنويات عالية ورغبة في العمل الجماعي. فمن أجله كنّا نعمل مسرورين ساعات طويلة ونحتمل في السفر أوضاعاً لا يحتملها أي موظف يعمل من أجل المال فقط. ومع أنّ كل واحد في الديوان كان لديه عمله المحدّد ودرجته الخاصّة فإنه لم يكن هناك أبداً شعور بالتنظيم الصارم. فقد كُنّا كأسرة متّحدة تحت أبّ عطوف حكيم. وكان كل واحد منا على قدم المساواة مع زملائه في بذل ما يستطيع نحو المصلحة العامّة. وقد أصبح كثير من أصدقائي في الديوان في سنوات متأخرة رجالاً ذوي ثروات طائلة وأهمية كبيرة. وإني لأشعر أنهم يستحقون الإشارة إليهم في هذا الكتاب لما قاموا به من خدمات للملك حين كانوا يعملون معه.

كان رئيس الديوان الشيخ إبراهيم بن معمّر الذي كان أجداده أُمراء العينيّة قديماً. وكان والده قد ربّاه في الكويت، ثم ذهبا فيما بعد إلى الهند حيث أخذ يعمل فترة معيّنة في التجارة بين الهند والكويت. وقد قام بأسفار كثيرة في بلاد العرب وأوروبا، ثم استقرّ فترة في مصر. وهناك كتب عدداً من المقالات والرسائل حول ابن سعود ونجد في الصحف المصرية. وكانت معرفته بأحوال الجزيرة العربية عميقة. وكثيراً ما استطاع الردّ على الدعاية المُغرِضة أو الجاهلة التي كانت تُكتَب بين حين وآخر ضدّ نجد. وبعد استيلاء ابن سعود على الحجاز كان جلالته في حاجة إلى إداريين أكفّاء. وكان ابن معمّر اختياراً واضحاً. فأرسل إليه رسالة يسأله عما إذا كان مستعداً للمجيء إلى المملكة للعمل لديه. فوافق ابن معمّر بسرور، وعُيِّن، فوراً رئيساً للديوان، وهو عمل قام به خير قيام سنوات عديدة. وكان ابن معمّر رجلاً نشيطاً ذا إحساس بالمسؤولية قام بإدارة ديوان سعيد منتج. وكان متفانياً في ولائه للملك؛ إذ خدمه بإخلاص تامّ. ومن سوء الحظّ أنّه وقع خلاف بينه وبين أحد الأمراء قبل تركي العمل في الديوان بقليل فاستقال من منصبه. وكان الملك متردداً جداً حيال هذا الموضوع فأراد ألّا يخسره تماماً، وعيّنهُ سفيراً له في بغداد. وهناك استخدم إمكاناته كلّها لصالح كثير من النجديين الذين كانوا يعيشون في العراق ويعانون أحياناً أنواعاً من التفرُقة والإزعاج البيروقراطي. وكانت مجهوداته من أجلهم قد جعلَته في آخر المطاف شوكة في خاصرة الإدارة العراقية حتى طلب ملك العراق من ابن سعود أن يسحبه. وقد قام جلالته بذلك على مَضَض. لكن ابن معمّر لم يترك العراق إلا بعد أن ترك بصماته على صورة المستقبل الأفضل لمصير مواطنيه الذين كانوا يسكنون هناك.

وحالما بدأت أجهزة اللاسلكي والاتصالات الحديثة تُستَخدَم بانتظام في القصر أصبح ضرورياً أن يوظف أحد للإشراف عليها. وكان الرجل الذي اختِير لهذا المنصب صديقي القديم محمد الدغيتر. وكان محمد من أسرة بارزة في الرياض مشهورة بولائها لآل سعود. وكان قد درس فترة في الزبير حتى نال قسطاً من الثقافة. وكانت وظيفته في الديوان أن يخبر الملك فوراً بأية أخبار مهمّة سواء كانت حسنة أم سيئة. أما الأخبار السيئة فكانت تحتاج إلى كل ما لدى محمد من لطف وحصافة لأن غضب الملك يمكن أن يكون مخيفاً. وأما الأخبار الحسنة فكانت كثيراً ما أوحت إلى جلالته بإظهار سخائه. وكان محمد هو الذي يتلقّى الكثير من الهدايا لأنّه يبشّر الملك بهذه الأخبار. وذات مرة، بعد أن بشّر الملك بسحق تمرّد صغير، منحه بضعة هكتارات من الأرض تقع خارج أسوار المدينة. وكانت الأرض حينذاك ذات قيمة طفيفة، لكن محمد تمسّك بها بحكمة. وهي الآن تُشكِّل جزءاً كبيراً من المركز التجاري في الرياض.

وحين التَحقَت بالديوان كان مساعد رئيسه عبد الله ابن عثمان الذي كان، أيضاً، من أسرة مشهورة في الرياض. وقد ربّاه والده في الكويت حيث حصل على درجة ممتازة من التعليم. وكان قد أتى هو ومحمد الدغيتر إلى الرياض بواسطة وكيل الملك في الكويت، الشيخ عبد الله النفيسي، قبل وصولي إلى الحجاز بشهور قليلة. وقد أصبح ابن عثمان رئيساً للديوان بعد استقالة بن معمّر من رئاسته.

وكان ابن سعود، كأيّ ملك آخر، يتلقّى سيلاً من استرحامات رعاياه. وكان أغلبها قد أُطنِبَ في كتابتها على أساس أنه كلما طال الاسترحام زادت فرص قبوله. وقد عيّن موظف يقرأ كل ما كتب ويختصره ليرى الملك فوراً ما الذي يُراد منه. وكان الرجل الذي اختِير لهذه المَهمّة حمد ابن مضيّان الذي قام بمهمّته بكفاءة وصبر رغم ازدياد الأوراق التي تصِل إليه مع مرور الأيام.

وكان هناك كاتبان في الديوان ليست لهما واجبات محدّدة، لكنهما كانا يساعدان كل من كانت مساعدته ضرورية. وكان أحدهما محمد الشبيلي من عنيزة والآخر محمد بن ضاوي من حرمة. وكان الشبيلي مِمّن درس في الزبير، وممن تهيأت له فرص نجاح عظيم في فترة حياته. وقد أصبح قنصلاً في البصرة ثم سفيراً في العراق وباكستان والهند وأفغانستان وماليزيا على التوالي. أما ابن مضاوي فقد أثار إعجاب كل الناس، بوصفه شابّاً في غاية البراعة، حالما التحق بالديوان. وبعد أن اكتسب بعض الخبرة الإدارية كلّفه الملك برئاسة وفود حكومية عديدة إلى اليمن.

أمّا أنا فكنت رئيس المترجمين. وكنت مسؤولاً عن ترجمة كل الرسائل والوثائق من الإنجليزية والأردية إلى العربية. وكنت أترجم رسائل الملك إلى هاتين اللغتين لتُرسَل إلى الحكومات الأجنبية. وكنت أضطر أحياناً إلى محاولة الترجمة من لُغات أخرى لأن الديوان حاجة ماسّة إلى من يتقنون اللغات الأجنبية. وكان عبء العمل يزداد باستمرار. ولم يمضِ وقت طويل حتّى انضمّ إليّ أخي عبد العزيز وأصبح مساعداً لي، ثم التحق بنا ابن عمي عبد العزيز الزامل الجويسر وقد انتقل فيما بعد إلى الشعبة السياسية، ثم أصبح المترجم الشخصي للأمير فيصل في الحجاز. وكنت أنا وزملائي مع طابعي آلة كاتبة وقليل من الخَدَم، نُشكِّل القسم الأجنبي في ديوان ابن سعود كله. وقد تهيأ لنا، بطبيعة الحال، أن يعرف بعضنا بعضاً معرفة حميمة. وكان جوّ الأسرة في الديوان شيئاً لا يستطيع أن يتخيّله موظف مدني حديث يعمل في إدارة واسعة تسيطر عليها أجهزة الكمبيوتر.

وما دمت أتحدّث عن الأبطال الذين لا يشيد الناس بذكرهم والذين ساعدوا الملك في بناء مملكته فإني أشعر بأن من واجبي ان أشير إلى كثير من النجديين الذين مثّلوا بلادهم في الخارج. فقبل استيلاء الملك على الحجاز لم يكن له قناصل رسميّون أو ممثّلون دبلوماسيون في الدول الأجنبية. وكان التّجار النجديون المستقرّون في تلك الدول يعملون بصفتهم وكلاء له. وكانوا مشهورين في كل أرجاء الجزيرة العربية بالديانة والأخلاق الفاضلة. وكان جلالته يختار من هؤلاء من أمضوا فترة طويلة في مكان معيّن واشتهروا بالأمانة والصدق والنزاهة الأخلاقية. وكان من يختاره منهم لا يستلمون أجوراً على ما يقومون به من خدمات. لكنهم كانوا يكسبون بكونهم وكلاء للملك زيادة في مكانتهم الاجتماعية ومزايا في تعاملهم التجاري، ولعلّ نجاح هذا النظام كان عائداً إلى طبيعة الوشائج الموجودة في المجتمع النجدي. ذلك أن النجديين كلّهم كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من أسرة كبيرة، ويظلّ بعضهم وفياً للبعض الآخر، خاصّة إذا كانوا خارج بلادهم. وكان من النجديين المشهورين الذين كانوا وكلاء للملك خارج بلادهم، الشيخ فوزان السابق في القاهرة، وعبد اللطيف باشا المنديل في بغداد والبصرة، والشيخ عبد الله النفيسي في الكويت، والشيخ عبد الله الفوزان في بومبي، والشيخ ابن ليلى في دمشق، والشيخ عبد الرحمن القصبي في البحرين. وقد بذل هؤلاء الرجال جهداً عظيماً لصالح بلادهم في الخارج. ومن المؤسف أن كثيراً منهم لا يكادون يُذكَرون في الوقت الحاضر. وحين اتّسع نفوذ ابن سعود بدأ يؤسس خدمات قنصلية رسمية. وقد حلّت المؤسسات الجديدة شيئاً فشيئاً محلّ المُمثّلين السابقين. وكما هي الحال في مثل هذه الأمور كان جلالته في غاية اللطف والتقدير. كان يضع، عادة، كل سفير جديد تحت إشراف وكيله السابق حتى يأتي الوقت الذي يختار فيه ذلك الوكيل أن يتخلى عن مهمّته.

وقد عرفت، من خلال عملي، بعض الشيء عن غالبية الرجال البارزين الذين كانوا يحيطون بالملك، خاصة أولئك الذين كانوا يشكّلون الشعبة السياسية. وكان عدد أفراد هذه الشعبة يتغيّر من وقت إلى آخر، لكنّه كان، عادة، حوالي ثمانية رجال. ولم يكونوا كلهم من وسط الجزيرة العربية، بل كان بعضهم من أقطار الشرق الأوسط. فقد كان حافظ وهبة، المولود في مصر، مستشاراً مهماً وبارزاً. وكان يحضر كل اجتماعات الشعبة إلّا إذا كان غائباً في مهمّة رسمية. وقد أصبح وزيراً فوق العادة ثم سفيراً لجلالته في لندن. وكان الشيخ خالد الحكيم سورياً يتّصف بالحكمة. وكان مهندساً في سِكّة حديد الحجاز إبّان الحُكم التركي. وكان يوسف ياسين سورياً، أيضاً، وكان مسؤولاً عن تنظيم اجتماعات الشعبة السياسية. وكان الشيخ فؤاد حمزة لبنانياً. وكان السكرتير الأول لابن الملك وزير الخارجية، الأمير فيصل. وقد قضى فؤاد كثيراً من وقته في مكتب وزارة الخارجية في الحجاز حيث كان يوجد جميع السفراء الأجانب. وكان من مستشاري الملك الشيخ خالد الغرقني. وهو ليبي كان حاكماً لمدينة طرابلس في أثناء الاحتلال الإيطالي لبلاده. ولا بد أن يذكر المرء من بين مستشاري الملك الأجانب الشيخ عبد الله فيلبي، الذي كان دائماً يرحب به في اجتماعات الشعبة السياسية لكنه نادراً ما حضرها. ذلك أنّه كان يُفضِّل أن يكون مع جلالته في مجلسه الخاصّ والعام حيث يُمكِنُه، أحياناً، أن ينفرد به بعد انتهاء المجلس. وكان هناك عضو بارز في الشعبة، وهو أخو الملك، الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، الذي كان يحضر اجتماعاتها ما أمكن والذي كانت آراؤه مقدّرة من قِبَل جلالته.

ولعلّ أهم مستشاري الملك ذلك الرجل الذي لم يكن يحضر اجتماعات الشعبة السياسية بسبب مشاغله الأخرى خارجها، وهو الشيخ عبد الله بن سليمان وزير المالية. وكان ابن سليمان من عنيزة. وقد غادر جزيرة العرب وهو صغير السِنّ إلى بومبي، التي كانت تقريباً الممَر الوحيد المفتوح أمام الشُبّان العرب الذين يسعون إلى المغامرة والثروة. وقد عمل دون أن يتعلم تعليماً رسمياً في بيت الشيخ عبد الله الفوزان، الذي كان أحد وجهاء التّجار النجديين في تلك المدينة خلال أيامها المزدهرة بالتجارة العالمية. ولم ينسَ ابن سليمان أبداً سيّده الشيخ المحترم الذي كان متديّناً حصيف الرأي والذي علّمه الكثير من مهارات التاجر الناجح، ولأنه كان حريصاً على تجريب حظّه في التجارة غادر بومباي إلى البحرين حيث أنشأ له محلّاً تجارياً صغيراً. لكنه لم ينَل نجاحاً كبيراً فيه. ولم يلبث أن وجد نفسه يبحث عن وظيفة أكثر ضماناً.

وكان أخو ابن سليمان يشغل وظيفة مالية في القسم المعني بالأمور الداخلية في الديوان. وكان عمله كثيراً إلى حدّ ما، فسأل الملك أن يعيّن له مساعداً. وحين وافق على ذلك استدعى أخاه عبد الله ليعمل معه. ولأنه لم يكن لدى ابن سليمان أي شيء يُبشِّر بما هو أفضل وافق على استدعاء أخيه له وأتى ليساعده في عمله ثم بدأ يشُقّ طريقه وأبدى براعة فورية في الإدارة المالية. لكن تماشياً مع التقاليد المُتّبعة لم يبرز في ظِلّ وجود أخيه على رأس العمل. وحين تُوفِيَ أخوه حلّ محلّه في العمل. ولم يمضِ وقت طويل حتى أدرك ابن سعود قابليّات ذلك الشاب الدؤوب الذكي المقدام. ونما إعجاب الملك به شيئاً فشياً. وحين التحقت بالديوان كان مساعد الكاتب سابقاً قد عُيِّنَ وزيراً للمالية مسؤولاً مسؤولية كاملة عن خزينة الدولة.

وقد ظلّ ابن سليمان وزيراً للمالية طيلة حياة الملك. ونادراً ما استطاع رجل أن يترأس مثل ذلك التطوّر السريع في ثروات بلاده كما حدث في الجزء الأخير من تلك السنوات. حينما استولى ابن سعود على الرياض سنة 1902م كان من الصدق أن يقال أن خزينة الدولة كانت برمّتها في أخراجه المعلّقة على ظهور إبله. ولم تتحسّن الحالة المالية كثيراً طِيلة العشرين السنة التالية لذلك. وكان جلالته دائماً في حاجة إلى المال. وحين استولى على الحجاز سنة 1926م سافر ابن سليمان معه ليُنَظِّم الجانب المالي من تسلُّم الحُكم هناك، فواجَه بيروقراطية ثابتة الجذور مختلفة تماماً عن الحالة الموجودة حينذاك في نجد. وتمكّن بما لديه من مواهب ودأب على العمل من دمج الإدارتين الماليتين في نجد والحجاز دون عناء كبير. ومنذ ذلك التاريخ أصبح مقرّ ابن سليمان الدائم في الحجاز في حين ظلّ ديوان الملك في الرياض. ومع أن وزير المالية نادراً ما تدَخّل في الشؤون الخارجية فقد كان ابن سليمان المسؤول الوحيد عن كل الشؤون الداخلية في المملكة.

وقد هيأ دخول الحجاز تحت حكم ابن سعود الفرصة لزيادة دخله بشكل كبير. وكان ابن سليمان يتولّى الواردات من الجمارك ودائرة البريد والضرائب التي كانت تؤخذ من الحُجّاج. وكانت هذه الضرائب تؤخذ من كل حاجّ كلّما سافر من منطقة في الحجاز إلى أخرى، خاصّة بين جدّة ومكة المكرمة والمدينة المنورة. وكانت تشكل نسبة عالية من دخل البلاد. لكن بالرغم من تلك الزيادة في الدخل ظل الملك يعاني صعوبات مالية مستمرة. على أن سليمان استطاع بطريقة ما أن يحتفظ بالقرش الأبيض لليوم الأسود. وكان عندما يعاني الصندوق من ضائقة مالية حقيقية يستطيع دائماً أن يلتفت إلى السوق التجارية ويجلب التُجّار. وكان من الخير لأثريائهم أن يكونوا خارج المدينة إذا كان الملك في حاجة مفاجِئة للمال. وحين كنت في الديوان في الرياض، قُبَيل معركة السبلة، كان جلالته في حاجة للمال لتمويل حملته العسكرية. فأرسل مساعد ابن سليمان في هذه المدينة، وهو شلهوب، ليرى ما يستطيع أن يجمعه من تُجّارِها. وكان شلهوب مع الملك منذ استيلائه على الرياض سنة 1902م. ومن سوء حظّه أنّ التُجّار سمعوا بأنه سيجتمع بهم فاختفوا. ونتيجة لذلك لم تنجح مهمّته بالقدر الذي كان يرجوه الملك. وقد ضحكنا جميعاً على شلهوب لفشله في جمع المال المطلوب، لكنّه أخذ الأمر مأخذاً حسناً وقال: “أوه. ليست هذه المتاعب البسيطة شيئاً يُذكَر. فحين أتيت من المنفى في الكويت مع الملك كانت كل خزينة الدولة في محفظة نقودي”.

وكان ابن سليمان يمثّل أعظم تمثيل الرجل ذا المكانة الرفيعة الذي يفضّل دائماً أن يكون بعيدا ًعن الأضواء. ومع ذلك بلغت قوّته ونفوذه درجة عظيمة جداً بحيث كنت كثيراً ما أفكر فيه على أنّه الملك غير المتوّج لجزيرة العرب. ورغم قوله بأنه لم يعمل أبداً أي شيء دون استشارة الملك فإنه في الحقيقة كثيراً ما نفّذ قراراته الخاصة من غير أن يحصل على إذن مَلَكي. ويجب أن لا يُفهَم ذلك على أساس أنّه كان غير مخلص لجلالته بأي شكل من الأشكال. بل على العكس من ذلك كان إخلاصه للملك إخلاصاً تاماً، وكان يعمل دون كلَل من أجل خير المملكة.

ومع ازدياد مكانة ابن سليمان وتعاظم أهميته أصبح له، بطبيعة الحال، بعض الأعداء. وحينما فُتِحَت الحجاز طلب الملك من جميع الموظفين في الحكومة الهاشمية السابقة أن يبقوا في وظائفهم. لكن كانت لا تزال هناك ثغرات في الهيكل البيروقراطي. فدَعا جلالته نجديين من كل الأقطار العربية الأكثر تقدماً، كمِصر والهلال الخصيب، ليأتوا إلى المملكة ويعملوا في الحجاز. وكان يأمل أن يبرهن هؤلاء الرجال على ولائهم له، ويكونوا ذوي آراء صائبة وبصائر نافذة نتيجة حياتهم في تلك الأقطار. وقد أثبت بعض الذين اختارهم جدارتهم، مثل إبراهيم بن معمّر رئيس الديوان. لكن البعض الآخر كانت تنقصهم المعرفة والقدرة، وقد وُضِعَ عدد منهم تحت إدارة ابن سليمان، ولم يمضِ وقت طويل حتى اتّضح أنهم غير مؤهلين للعمل وأنهم يتخبّطون فيه دون أن يفهموا ما ينبغي أن يقوموا به. وما أسرع ما لاحظ ابن سلميان عيوبهم. ولم يكن الرجل اذي يحتمل البُلَهاء مسروراً، فأخذ ينتقدهم دون هوادة. وأصبح النجديون بدورهم يغبطونه على ما كان له من قوّة دون أن يروه أفضل منهم. ولذلك تآمروا عليه وتعرّضوا لحياته الشخصية فكتبوا إلى الملك رسائل يشكون فيها منه ويوضحون فيها عيوبه الخاصة. وكان من الممكن أن يكون في ذلك خطر على ابن سليمان، لكن الملك أوضح ثقته بوزير مالّيته بجمع كل هذه الرسائل وإرسالها إليه مخولاً إيّاه أن يتّخذ أي إجراء يراه مناسباً تجاههم. ولم يكن من المستغرب أن ابن سلميان لم يُضِع وقتاً، فطرد هؤلاء الرجال من وظائفهم وأرسلهم إلى بلدانهم الأولى أو إلى أيّ مكان أرادوا الذهاب إليه. وأحلّ محلهم أناساً اختارهم بنفسه. ونتيجة لذلك تحسّنت الأوضاع الإدارية إلى درجة جعَلَت الملك يزيد من مساندته لابن سليمان في أيّة خطط أراد إدخالها، وأعطاه حرية كاملة في اختيار موظفيه. ومنذ تلك اللحظة أصبح مركز ابن سليمان ونفوذه أمرين لا يمكن المساس بهما. وببقائه في نطاق الإدارة المالية أصبح في نهاية الأمر مسيطراً على كل المديريّات، وصار يُعيِّن الموظفين بموافقة الملك مما زاد في سلطته على درجة كبيرة. والحق أن ابن سليمان كان المؤسس الحقيقي للنّظام الوظيفي الحديث النشأة حينذاك وقد وضع بعمله حجر الأساس للوزارات الكاملة التكوين التي انبثقت من المديريّات القديمة.

ورغم أن ابن سليمان كان يتوق إلى السلطة فإنه لم يتوفر له وقت كامل لزخرفها. كان عَزُوفاً عن الظهور أمام الناس لأنه كان يعرف أن ذلك يمكن أن يكون حسناً لكن يمكن أن يكون سيئاً أيضاً. وقد أدرك أنه كلما عظمت مكانته العامة ازداد حسد أعدائه. على أن الشعبية لم تكن تهمه؛ فقد كان بطبيعته متحفظاً منعزلاً، ولم يقم بمحاولة كبيرة للحظوة بِحُبّ مرؤوسيه. بل إنه في الحقيقة كثيراً ما جعل نفسه مكروهاً لديهم. ورغم سرعته في نقد انعدام الكفاءة أو قِلّة المقدرة فقد كان كثيراً ما يرفض منح الترقية للذين يظهرون مقدِرَة خِشية تعريض مركزه للخطر. وكان يتردّد دائماً في تفويض المسؤولية إلى غيره. ونتيجة لذلك ثقُلَ العمل عليه إلى أقصى درجة. وفي قمّة مجده كان يعمل ثماني عشرة أو تسع عشرة ساعة في اليوم دون توقُّف عن العمل إلّا لنوم ضروري جداً.

وكان ابن سليمان رجلاً ذا دهاء لا حدود له. فكان دائماً يحمل أفكاراً جديدة لمساعدة الملك في مشكلاته المالية. من ذلك أنه حين ساءت الحالية المالية للدولة سنة 1935م وأصبحت لا تستطيع صرف مرتّبات موظفيها حلّ تلك المشكلة بعمل نظام يدفع بموجبه للموظفين المدنيين ثلث مرتباتهم نقداً، والثالث الثاني مؤناً. أما الثلث الباقي فيظل عند الدولة قرضاً إلزامياً. وقد استمر هذا النظام سنة أو سبعة شهور حتى توفّرت النقود لدى الدولة. وكان هناك إجراء أبسط من ذلك استعمله ابن سليمان، أيضاً، لتوفير النقود، وهو رفض دفعها. وكان ابن الملك، الأمير فيصل، حاكماً على الحجاز. وكثيراً ما كان يعطي رؤساء القبائل أوامر على المالية لتصرف لهم نقوداً أو مواد غذائية. لكن ابن سليمان غالباً ما أغضبه بدفعه لهم مبالغ أقلّ مما أمر به الأمير. بل كان أحياناً لا يدفع لهم شيئاً على الإطلاق. غير أنّ الأمير لم يتّخذ أي إجراء ضدّه لإدراكه، بدون شك، أن الوزير كان يوفّر المال من أجل الدولة. لكنّ مشكلة أكثر صعوبة كانت تواجه ابن سليمان حينما يأتي إليه الأمراء من الأسرة الحاكمة ليصرف لهم نقوداً. فرغم أن هؤلاء يحملون أوامر من الملك إلى المالية فإنّ الوزير أحياناً لا يدفع المبالغ لهم إذا كانت الأموال قليلة في الخزينة. ومع أنّ الملك لم يكن يتغاضى علناً عن تصرُّف ابن سليمان في هذا المجال فإني واثق بأنه على اتفاق معه سرّاً. وكان أحياناً يتعرّض للتّهديد بالعنف الجسدي إذا لم يدفع ما أُمِرَ به. لكنّي واثق بأنّ الملك كان مسروراً بعناد ابن سليمان الصامد في مثل هذه الأمور. وعلى أيّة حال فإن هذا التشدُّد الاقتصادي قد يتجاوز حدوده. ففي أحد الأيام رفض أخو الوزير ومساعده، حمد بن سليمان، أن يدفع مبلغاً من المال إلى إحدى زوجات الملك رغم أمر جلالته بذلك. فغضب الملك وأرسل اثنين من خُدّامِه بسيّارة، وأمرهما أن يأخذوا حمداً إلى تلّ بعيد عن المدينة ويتركاه هناك دون ماء أو طعام. وظلّ هناك يومين قبل أن يستطيع أخوه الحصول على إذن من الملك بإعادته.

وكان ابن سليمان في قمّة سلطته أهمّ رجل في المملكة خارج الأسرة الحاكمة. وحين كنّا في الحجاز كانت هناك اجتماعات مثيرة ومؤتمرات كثيرة بين الملك ورؤساء القبائل وعلماء الدين في المنطقة. لكن العمل الحقيقي للدولة كان يتمّ حين يأتي ابن سليمان وحده بسجلّاته إلى غرفة الملك الخاصة بعد صلاة الفجر مباشرة.

ولم يحصل ابن سليمان أبداً على أي تدريب رسمي في مسك الدفاتر أو المحاسبة. وكان الأسلوب الذي استعمله في إدارة مالية الدولة كافياً وفعّالاً حين يكون هو على رأس العمل. لكنّه كان يربك الخبراء الماليين الأجانب الذين كانوا على صلة به. وكان مدركاً لهذه المشكلة، فحاول القيام بمجهودات أوليّة لتحديث النظام الحسابي، وطلب من خبير مالي هولندي مشورة عامة في هذا الموضوع. وقضى ذلك الخبير بضعة أسابيع يتقصّى المشكلة، وبدأ يعدّ تقريراً مطوّلاً يضمنّه توصياته بإدخال الطرق الغربية الأصولية في الإدارة، ومن ذلك إدخال أسلوب متقدم في التدوين المزدوج لمسك الدفاتر. لكنه كان كلما تقدم في عمله اتّضح له أن ابن سليمان لم يفهم طريقته أكثر مِمّا كان في مقدرته هو أن يفهم طريقة ابن سليمان. ومن هنا حزم أمتعته وغادر البلاد. وفي المرة الوحيدة التي طلب فيها ابن سليمان مشورتي – وكان ذلك مدهشاً لي – سألني عمّا إذا كنت أعرف أي نجدي له خبرة جيّدة بالفنون البنكية الحديثة. فأوصيته بابن عمي، عبد العزيز الزامل الجويسر، وطلب منه أن يأتي إليه، لكنّه اعتذر بأدب عن المجيء. وعلى أية حال، فقد التحق عبد العزيز بالديوان – كما ذُكِر سابقاً – حيث أصبحَت له مكانة مرموقة في مجال الترجمة.

وقُرب نهاية حكم الملك، حين ازدادت ثروات البلاد بواردات الزيت، بدأ نظام ابن سليمان الحسابي يضعف أمام الضغوط الواقعة عليه. وكان الوزير حينذاك قد تقدمت به السنّ رغم أنه كان لا يزال صلب العود. فقام الأميران سعود وفيصل بزحزحته بلطف عن موقعه في السُلطة، وعيّنا رجالاً آخرين ليتولّوا بعض الوزارات والمديريات التي كان يسيطر عليها سابقاً. وبعد وفاة الملك بسنين قليلة، ونتيجة للتحقيق في شؤون شركة مبانٍ ألمانية كان لابن سليمان علاقة بها، أقنع وزير المالّية بالاستقالة.

ولم أكن شخصياً أعرف ابن سليمان إلا معرفة بسيطة. ونادراً ما كنت ألتقي به لأنه كان ينفق معظم أوقاته في الحجاز التي كنّا نزورها مرة واحدة في السنة. وكنت كلما تحدثت إليه أحسست بأن طريقته كانت عدائية جافة. لكن هذا لا يمنعني من اعتباره واحداً من طليعة الشخصيات في التاريخ الحديث لبلادنا. ذلك أنّه هو الذي وضع الأسس لإدارتنا الحديثة، وكان جديراً كل الجدارة بالوصف الودّي. الذي كان الملك يطلقه عليه، وهو: “عصابة رأسي”.

 

الشارع العام في مكة سنة 1920م وبين الجدار الخارجي للحرم إلى اليمين. تصوير بوبر فوتو

 

الاحتفال بغسل الكعبة قبل الحج وكسوتها التي كانت تصنع في مصر وترسل إلى مكة سنويا مع المحمل حتى سنة 1925م حين وقع حادث المحمل والأخوان. تصوير وكالة كيستون للصحافة

 

فلبي في نهاية رحلته عبر البلاد العربية سنة 1917م. تصوير الجمعية الجعرافية الملكية

 

فلبي سنة 1960م قبل وفاته بقليل

 

من اليمين: الشيخ عبدالله السليمان وزير المالية. تصوير معهد الشرق الاوسط بواشنطن. من اليسار: الشيخ يوسف ياسين نائب وزير الخارجية ووزير الدولة، وكان رئيسا للجنة السياسية في الديوان. تصوير وكالة الكاميرا للصحافة

 

الشيخ حافظ وهبه كبير مستشاري الملك سفير المملكة العربية السعودية في لندن بعد ذلك مع الأمير فيصل أثناء اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1946م. تصوير وكالة كيستون للصحافة

 

من اليمين: الأمير فيصل نائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية. تصوير وكالة الكاميرا للصحافة. من اليسار: الأمير سعود ولي العهد والابن الثاني للملك بن سعود. تصوير وكالة كيستون للصحافة

 

إمام اليمن أحمد بن يحيى.

 

قصر السلطان في شبام بحضرموت. تصوير بوبر قوتو

 

قصر الامام يحيى في صنعاء سنة 1930م. تصوير الجمعية الجغرافية الملكية

 

الميجور فرنك هولمز – الذي مثل الشركة العامة الشرقية ونال امتياز زيت الاحساء سنة 1923م. تصوير شركة الزيت البريطانية

 

الوليمة التي أقيمت في مايو 1939م بمناسبة الاحتفال بشحن أول ناقلة زيت سنة 1939م ويظهر على يمين الملك المستر ل.ن. هاميلتون، وعلى يساره ف.و. اوهليقر وكلاهما من أرامكو. تصوير أرامكو

 

صاحب الجلالة الملك ابن سعود يشترك في العرضة الحربية النجدية في الرياض. تصوير بوبر فوتو

 

ابن سعود في زيارته الرسمية لمصر سنة 1945 ويظهر فيها معه الملك فاروق عند خروجهما من محطة القاهرة للسير في شوارعها. تصوير وكالة كيستون للصحافة

 

الملك ابن سعود والرئيس روزفلت خلال اجتماعهما في مصر سنة 1945م. تصوير بوبر فوتو

 

أمان الله ملك افغانستان الذي نحى عن الحكم سنة 1928م، وأزال الاستقبال الحار الذي لقيه من الملك غبدالعزيز بن سعود الاشاعة التي لحقت به من أنه صار مسيحيا. تصوير بوبر فوتو

قائمة المحتويات