يرجى الإنتظار...

(إنَّ هَذهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدةً وأنَا ربُّكم فاعْبُدونِ)

سورة الأنبياء (92)


 

لعلّ من أعظم ظواهر التاريخ الحديث ظهور نفوذ الأقطار العربية وقوّتها، خاصة المملكة العربية السعودية الواسعة الأرجاء. فقد أخذ العالم في كل بقاع المعمورة يبدي اهتماماً جديداً بهذه المملكة، وأصبح يظهر تقديراً كبيراً لثروتها وقدرتها الاقتصادية وحكمة زعمائها. وقليل جداً من الأجانب هم أولئك الذين يعلمون أن البلاد التي يشملها الآن اسم المملكة العربية السعودية كانت حتى القرن الحالي بلاداً متفرقةً مكوّنة من ممالك صغيرة ومناطق نفوذ إمبريالية وقبائل متحاربة يتغيّر ولاؤها وحدودها بنفس السرعة وعدم الانتظام اللذين تتغيّر بهما رمال الصحراء. لقد تكوّنت هذه المملكة الحديثة من عدم، خلال الجزء الأول من هذا القرن، نتيجة المهارة العسكرية والحنكة السياسية لرجل واحد فذّ هو جلالة الملك عبد العزيز بن سعود.

ولكي يقدّر المرء المدى الكامل لإنجازات ابن سعود العظيمة، عليه أن يعرف شيئاً عن مجريات السياسة في جزيرة العرب عند مستهل هذا القرن، فقد كان معظم الجزيرة سنة 1900م تحت نفوذ أو حكم الإمبراطورية العثمانية التي كانت حينذاك ما تزال قوية رغم قرب نهايتها. ففي الشرق كان الأتراك يحتلون منطقة الأحساء على شاطئ الخليج العربي. وفي الغرب كانوا يحكمون الحجاز بواسطة الشريف حسين المنتمي إلى الأسرة الهاشمية. وكان هذا الشريف حقيقة دمية في أيديهم وإن كان مستقلاً من الناحية الإسمية. أمّا في الشمال فكانوا يسيطرون على الهلال الخصيب المشتمل على فلسطين وسوريا والعراق. كما أنهم حاولوا، أيضاً، أن يسيطروا على المنطقة الصحراوية في وسط جزيرة العرب بمساعدتهم للقبائل والحكام الذين بدوا لهم أقوى من غيرهم.

وعلى اية حال فإن هذا النجاح التركي كان مؤقتاً ذلك أنه لم يكن من السهل بسط النفوذ على البدو الرُحَّل الذين كانوا ينظرون إلى الأتراك على أنهم مُجرّد مصدر مريح لما يحتاجون إليه.

ولعلّه من غير الصحيح أن يوصف الحكم التركي خلال أكثر القرن التاسع عشر بأنه حكم قسريّ. فقد كان الأتراك مسلمين، وكانت الجزيرة العربية المكان الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذا مال الأتراك إلى معاملة سكانها باحترام يليق بمن يسكنون أرضاً مقدسة، ومنحوهم قدراً كبيراً من الاستقلال الذاتي. بل إنه لم يكن من غير المألوف أن يدفع الأتراك مرتبات مستمرة للزعماء المحليين دون أن يتوقعوا شيئاً مقابل ذلك. لكن ما أن قربت بداية الحرب العالمية الأولى حتى أصبح الحكم التركي أقل تسامحاً وكرماً لظهور موجة جديدة من الإداريين الشُبّان من أعضاء تركيا الفتاة الذين حاولوا بحماقة أن يتدخلوا في أسلوب حياة العرب ويفرضوا عليهم عاداتهم التركية. فجعلوا تعليم اللغة التركية إلزامياً في المدارس المحلّية، وحاولوا أن يجبروا العرب على لبس الطربوش على رؤوسهم بدلاً من لباسهم التقليديّ. وقد استهجن العرب ذلك بصفة خاصة وقامت بسببه مظاهرات في كل البلاد العربية. وكان المتظاهرون يهتفون: “الموت ولا لبس الطربوش”. وقد فقد كثيرون منهم حياتهم فعلاً لأن تلك المظاهرات كانت تجابه بعنف شديد، خاصة من قِبَل جمال باشا حاكم سوريا الكبرى. وعند بداية الحرب العالمية الأولى كان الأتراك قد جعلوا أنفسهم مكروهين بلا ضرورة. وبذلك بذروا بأنفسهم بذور الثورة العربية التي نظمها لورانس في الحجاز.

وفي مستهل هذا القرن كان هناك نفوذ إمبريالي مهمّ في جزيرة العرب وهو نفوذ بريطانيا العظمى. ومع أن بريطانيا لم تحتلّ أي جزء من المناطق التي أصبحت تسمّى المملكة العربية السعودية فإنها كانت مسيطرة على مسقط وعمان وعدن في الجنوب، وعلى مصر والسودان غرب البحر الأحمر. وكانت أيضاً، متعهدة بحماية عدد من المشائخ في المناطق المطلّة على الخليج العربي، خاصة الشيخ مبارك أمير الكويت. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يهتم البريطانيون كثيراً بنشاط الأتراك في الجزيرة العربية وأن يكونوا دائماً يقظين لانتهاز أي فرصة تمكّنهم من القضاء على السيطرة التركية فيها.

وتستحق بلاد الحجاز عناية خاصة لأهميتها المتمثلة في كونها مركزاً دينياً وتجارياً مهمَّاً. وكانت السلطة فيها متمركزة في جدة والمدينة؛ إضافة إلى البلدة المقدسة مكة المكرمة. ولأن كل مسلم ملزم بأداء الحج مرة في العمر على الأقل كان الحجاج يتدفقون إلى هذه البلاد. وكان مجيئهم يجلب معه تدفقاً عظيما من المال لجباة الضرائب والتجار، كما كان يحمل معه باستمرار الكثير من الأفكار الجديدة الموجودة خارجها. ونتيجة لذلك كانت الحجاز أكثر غنىً وتقدّماً من بقية مناطق الجزيرة العربية، كما كان سكانها مشهورين لدى عرب الصحراء المتقشفين بتساهلهم الأخلاقي.

أمّا بالنسبة لسكان وسط الجزيرة العربية فإن الإمبراطوريات والدول والحدود كانت مفاهيم لا تعني لديهم شيئاً كثيراً. كانت بلادهم الواسعة في معظمها، صحراء قاحلة أو ذات شجيرات صغيرة وكان بعضهم يعيشون في مدن صغيرة حول واحات قليلة بينما كان معظمهم بدواً رُحَّلاً يتنقلون بأسرهم وحيواناتهم من مرعى إلى آخر. ولقد انتجت الصحراء رجالاً اشداً معتزين بأنفسهم، لم يكن ولاؤهم لأيّ ملك أو إمبراطور بعيد عنهم وإنما كان في الدرجة الأولى والأتمّ لقبيلتهم ذاتها. وكان النظام القبلي العربي، وما زال، من أكثر الأنظمة دقة وتعقيداً. كانت كل قبيلة بصفة عامة تحتل منطقة محددة تحديداً تقريبياً، وتسيطر على مراعيها وموارد مياهها بحيث لا تمرّ عبرها قبائل أخرى إلا بإذنها أو بقوة السلاح. وهذه القبائل كثيرة لكن بعضها بلغ درجة من الأهمية تستحق الإشارة إليها هنا.

كانت عتيبة القبيلة المسيطرة على المناطق الممتدة بين الرياض ومكة وما يليها جنوباً حتى إقليم عسير. وكانت مطير القبيلة الرئيسية في المنطقة الممتدة ما بين المدينة والكويت. وكان قسم منها، يسمّى بني عبد الله، يعيش بين المدينة وعنيزة وفي وسط البلاد كانت قبيلة حرب التي كانت لها فروع في الحجاز وفروع أخرى في نجد. وكان قسم من قبيلة سبيع يعيش حول الرياض بينما كان قسم آخر منها يعيش في جنوبي الحجاز وعسير. وكانت قبيلة قحطان تحتل المناطق الواقعة جنوب الرياض حتى الربع الخالي كما كان يوجد لها فروع في المناطق الجنوبية من الحجاز وتعتبر هذه القبيلة أمّ القبائل كلها إذ تعتبر أقدم قبيلة في الجزيرة العربية. وتعيش في منطقة جبل شمر قبيلة شمر التي يشتهر رجالها بالكرم والقوة والشجاعة، كما تشتهر نساؤها بالجمال.

ولم يكن عدد القبائل المختلفة كثيراً فحسب؛ بل كانت كل قبيلة تنقسم إلى قسمين كبيرين على الأقل. ومن المحتمل أن معظم القبائل قد تشكلت منذ قرون، وذلك حينما نجحت أسر قوية في تكوين جماعات خاصة من أتباعها. وربما وجد ابنان في أسرة واحدة فتزّعم كل واحد منهما قسماً من القبيلة بعد وفاة أبيهما فاستمرت عملية الانقسام الداخلي من جيل إلى آخر. ولعلّ أقرب مثال على ذلك قبيلة عتيبة، فهي تنقسم إلى فرعين رئيسيين أحدهما بَرْقا والثاني الرُّوقة، ولكلٍ من هذين الفرعين فروع أخرى متعددة. فبرقا – مثلاً – تشتمل على المقطة والنفعة والدهينة والعصمة. وكل فرع من هذه الفروع ينقسم إلى عدة أقسام، وعلى هذا النمط تتكوّن كل القبائل. وغالباً ما كان أحد فرعي القبيلة الرئيسيين أكثر قوة ونجاحاً من الآخر فيعتبر الفرع الأساسي أو السائد فيها. وكل رجل يطمح في أن يصبح ملكاً عظيماً في وسط جزيرة العرب كان يحتاج إلى معرفة موسوعية بتشكيل كل قبيلة وما يوجد في داخلها من منافسات. ذلك أن مبدأ “فرّق تسد” يمكن أن يستخدم إلى مدى بعيد بين القبائل المختلفة وبين الفروع المتعددة في القبيلة الواحدة. ولم يكن ابن سعود يعرف دقائق النظام القبلي العربي معرفة تامةً فحسب وإنما كان يعرف، أيضاً، كيف يستخدم المنافسات بين القبائل لمصلحته. فهو كثيراً ما جعل الفروع الأقل قوة من القبائل الكبيرة تتحالف معه ضد الفروع الأكثر قوة من تلك القبائل.

وكانت هناك حالة حرب مستمرة لمدة قرون بين القبائل المختلفة وأحياناً بين فروع القبيلة الواحدة. ولكنها لم تكن حرباً مشابهة للحروب الأوروبية التي تدور فيها معارك طاحنة وتقع فيها ضحايا مروّعة. كانت في أغلب الأحيان تتخذ شكل غزوات على الجيران للاستيلاء على الحيوانات والغنائم، فيردّ أولئك الجيران بغزوات مضادة تتخللها وتتلوها حالات ثأر من الجانبين. وكان الأفراد يقومون بتلك الغزوات عل أنها نوع من الرياضة أكثر من كونها نتيجة كراهية حقيقية للعدو. ولذلك فقد كانت تسلية محبوبة لديهم يخفّفون بها من رتابة حياة الصحراء وقسوة المعيشة فيها. وكانت المعارك، عادة، تجري على نطاق ضيق فيُكتَفَى منها بما يعتبر رداً لكرامة دون أن يتضرر سوى عدد قليل من القوم. فحروب الصحراء تكاد تشبه لعبة الشطرنج حيث يستطيع القائد الأكثر مهارة وانتباهاً القضاء على منافسه في نهاية الأمر.

ولقد كان من المستحيل الاعتماد على البادية في بناء مملكة. فقد حاول كثير من العظماء في الجزيرة العربية أن يوحّدوها تحت ظل حكومة واحدة لكن لم ينجح أحد منهم لمدة طويلة. وكانت المشكلة تكمن في أن رجال القبائل لديهم نزعة استقلالية حادة، ولا يكنّون ولاء لأيّ شخص ليس منهم. وكانوا يقدّرون أعظم التقدير القوة والشجاعة وحسن القيادة والحظ. فمن تتوفر لديه هذه الصفات بقدر عظيم فإنه يستطيع، لمدة من الزمن، أن يوحّد عدة قبائل أو عدة فروع قبلية ويبدأ في تكوين مملكة خاصة به. لكن النصر ذاته كان في العادة يحمل بين طيّاته بذور الهزيمة. ذلك أن أتباع الرجل العظيم ما أن يحصلوا على غنائم كافية حتى يختفوا في الصحراء مع ما غنموه. ولذا فقد كان على كل زعيم يريد أن يحافظ على بقاء مؤيديه بجانبه أن يستمر في غزواته وأن يبقي على انتصاراته. فإن خسر معارك أو توقف عن الغزو ليجمع أنفاسه فقدوا الأمل وحلّ بهم الملل فتخلوا عنه. وقد استولى الكثير من الأبطال المشهورين على مناطق في الجزيرة العربية لكن لم يجد واحد منهم صيغة تكفل الاحتفاظ بحكمها.

وكان يوجد في وسط الجزيرة العربية أسرتان بارزتان ظهر فيهما قادة عظماء؛ أحدهما آل رشيد ومركزها مدينة حائل الواقعة في جبل شمّر، والثانية آل سعود التي كان مقرها مدينة الرياض والتي كان لها تاريخ متميز عن غيرها. ففي سنة 1744م، تحالف محمد بن سعود، أمير بلدة الدرعية المغمورة حينذاك، مع محمد بن عبد الوهاب المصلح الديني العظيم وبدأ الجهاد الذي مكنّه من توسيع نفوذه في الجزيرة العربية. وقد ظلت الدولة التي أنشأها حتى قضي عليها سنة 1818م (1233هـ). ثم عادت من جديدة بزعامة تركي ابن عبد الله بن محمد بن سعود الذي ينحدر منه عبد العزيز ابن سعود مباشرة. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر بدأتا أسرتا آل رشيد وآل سعود تتصارعان من أجل السيادة على وسط الجزيرة العربية. وكان تاريخ الأسرتين متداخلاً. ففي سنة 1834م (1251هـ) عيّن فيصل بن تركي، جد ابن سعود، أحد أفراد آل رشيد أميراً على جبل شمَّر. وفي الوقت الذي تبدأ فيه قصتي المدوّنة هنا كان نجم آل رشيد يزداد صعوداً. فبعد معارك ناجحة تمكن محمد بن رشيد سنة 1891م من الاستيلاء على الرياض، التي كان يحكمها حين ذاك عبد الرحمن بن فيصل. وكان في إمكان عبد الرحمن أن يبقى أميراً عليها تحت ظل آل رشيد، لكنه فضّل أن يعيش بعيداً عنها على تبعيته لهم. وقد اصطحب معه إلى المنفى بعضاً من أتباعه وابنه عبد العزيز الذي كان عمره حينئذٍ عشر سنوات. وقد بلغت هزيمة آل سعود حداً جعل الكثيرين لا يفكرون في احتمال ظهورهم من جديد.

وظل محمد بن رشيد يحكم نجداً حكماً يكاد يكون حكم ملك مطلق التصرف حتى وفاته سنة 1897م. فقد عّين أمراء في البلدان التي استولى عليها والتي كانت خاضعة لآل سعود، كما حصل على أموال وأسلحة من الأتراك رغم أنه على الأرجح لم يعطهم شيئاً يذكر مقابل ذلك. وحينما توفي خلفه في الحكم ابن أخيه، عبد العزيز بن متعب الذي لم يكن يتوقع أية متاعب من آل سعود. لكن من سوء حظه أن الشاب عبد العزيز بن سعود كان قد ترعرع وأصبح رجلاً يتّصف بالشجاعة والمزايا التي كان يتّصف بها أجداده، كما يتّصف بصفات زعامة ملهمة استطاعت أن تبني مملكة ثابتة الأركان في هذه الصحراء عزّ على غيره أن يبني عليها مثلها. فبعد تسع سنوات فقط تمكّن هذا الأمير الشاب من أن ينتزع من ابن رشيد كلاً من حياته وما ورثه من حكم، وتهيأ له أن يمضي في طريقه ليصبح أعظم ملك عرفته جزيرة العرب وما هذا الكتاب إلا رواية جزء يسير من هذه القصة الباهرة.

قائمة المحتويات